*دول الخليج العربي مركز ثقل جديد في الشرق الأوسط * عز الدين عناية – أكاديمي تونسي واستاذ في جامعة روما*

دول الخليج العربي مركز ثقل جديد في الشرق الأوسط

* عز الدين عناية – أكاديمي تونسي واستاذ في جامعة روما

في السنوات الأخيرة، تحوّلت بلدان الخليج العربي، من دول منكفئة على أوضاعها الداخلية إلى دول حاضرة ضمن خريطة الفاعلين في الشرق الأوسط. لم تعد المنطقة محطّة للتزوّد بالطاقة فحسب، كما ساد على مدى عقود، بل غدت مصدر انبعاث لنهضة واعدة، وبالمثل عنصرًا فاعلًا في السياسة الشرق أوسطية، وشريكًا موثوقًا في التحالفات الدولية.

يروي كتاب «دول الخليج العربي.. مركز ثقل جديد في الشرق الأوسط»، لشينسيا بيانكو وماتيو ليغرينسي (الناشر: إيل مولينو، مدينة بولونيا، إيطاليا 2023م)، قصّةَ هذا الصعود الواعد في المنطقة، والمرشَّح لمزيد من التطور في السنوات القادمة. فدول الخليج التي أضحت محطة محورية في ظل نظام العولمة، تمد العالم بخُمس حاجته من الطاقة الحيوية، وتضطلع بدور فاعل في التوازنات المالية الدولية، وكذلك في التأثير في خريطة السياسات الإقليمية، من الشرق الأوسط مرورًا بالمتوسط وبشرق إفريقيا وإلى جنوب غرب آسيا. لقد باتت دول الخليج العربي محطّ أنظار أطراف دولية عدة، تتطلع إلى بناء مصالح إستراتيجية، وهو ما جعل تلك البلدان في قلب التحالفات المؤثرة، على المستويين الإقليمي والدولي.

يتناول الكتاب ستّ قضايا أساسية، وهي: تداعيات «الربيع العربي»، قطر والأزمة الخليجية، محور الرياض أبوظبي الصلب، سلطنة عمان ودولة الكويت.. قوة الوساطة الخليجية، الخليج العربي والأوضاع الليبية، إيران من منظور دول الخليج العربي. ويحاول المؤلفان- شينسيا بيانكو وماتيو ليغرينسي- التركيز على مختلف الديناميكيات التي تميز تلك البلدان في التاريخ الراهن، استنادًا إلى معطيات وإحصائيات ودراسات منشورة. نشير إلى أن المؤلفين كليهما من إيطاليا، يدرّسان العلاقات الدولية ويشتغلان بالبحث العلمي. شينسيا بيانكو، وهي جامعية وباحثة ملحقة بالمجلس الأوربي، معنية بمتابعة ملفات الخليج العربي، وأما ماتيو ليغرينسي، فهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة «كا فوسكاري» بمدينة البندقية وباحث في دراسة السياسات الشرق أوسطية.

التأثير في سوق الطاقة
يستهل المؤلفان كتابهما حول بلدان الخليج العربي بحديث عام، يتناولان فيه تقييم موقع جزيرة العرب ضمن جغرافية العالم الراهن السياسية، وتداعيات أوضاع العولَمة على المنطقة. حيث يشكّل موقع الجزيرة العربية، بحسب المؤلفين، ملتقى محوريًّا أَملته العولمة بين أوربا وآسيا وإفريقيا، وهو ما خوّل المنطقة حيازة موضع إستراتيجي طبيعي في عصر الاقتصاد المعولَم؛ إذ تبقى بلدان الخليج العربي همزة وصل في الاقتصاد العالمي تربط بين قارات ثلاث. وبالفعل تُهيمن الجزيرة العربية، بفعل امتداد سواحلها الهائلة، على البحر الأحمر، وهو البحر الذي يصل المتوسط ببحر العرب وبمنطقة الفضاء الهندي الهادي؛ إذ يشهد ذلك البحر سنويًّا عبور عُشر أنشطة التجارة العالمية، وهو مرشّح للتضاعف في ظل مخططات تجديد الموانئ وتطويرها التي تحرص عليها دول المنطقة. إضافة إلى ذلك تمر عبر البحر الأحمر أسلاك وخطوط الاتصالات الإعلامية التي تربط أوربا بآسيا، ناهيك عن أن المنطقة تحوي ثلث احتياط الطاقة العالمية (المملكة العربية السعودية: الثانية عالميًّا على مستوى إنتاج النفط والسابعة على مستوى الغاز؛ البحرين: المرتبة 66 على مستوى إنتاج النفط والمرتبة 57 على مستوى الغاز؛ الإمارات العربية المتحدة: المرتبة 6 على مستوى إنتاج النفط؛ الكويت: المرتبة 5 على مستوى إنتاج النفط و20 على مستوى الغاز؛ عمان: المرتبة 22 على مستوى إنتاج النفط و28 على مستوى الغاز؛ وقطر: المرتبة 9 على مستوى إنتاج النفط و3 على مستوى الغاز).

وفي تأكيد هذا الدور المؤثر لتلك البلدان، يورد المؤلفان، على سبيل الذكر، المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر، وهي من بين كبار منتجي البترول والغاز الطبيعي في العالم، ولها تأثير فاعل في سوق الطاقة العالمية وما له من أثر على نطاق عالمي. بدا ذلك جليًّا مع تفجر الحرب الروسية الأوكرانية من العام المنصرم، وهو ما كشف أيضًا عن معنى أن تكون دولة قوية عالميًّا على مستوى إنتاج الطاقة، وأظهر جليًّا الوزن الإستراتيجي الذي باتت تؤديه دول الخليج. صحيح أن تلك البلدان شهدت في السنوات الأخيرة تطورات مهمة، على مستوى الحضور الجيوسياسي، حوّلها إلى لاعب فاعل في ديناميكيات السياسة في المتوسط والشرق الأوسط؛ ولكن الحرب الروسية الأوكرانية أبانت بوضوح تعاظم هذا الدور على حسب ما يورد الكتاب. وقد كان لدولة الكويت وسلطنة عمان، اللتين انتهجتا سياسة تنأى عن الاستقطاب في المنطقة، دور رئيس ومؤثر في الوساطة بين القوى المتصارعة في العديد من المناطق في العالم وحالتا دون تفاقم الأوضاع.

غلب على الكتاب التركيز على التحولات في الشأن الاقتصادي والسياسي والإستراتيجي، وصعود دول الخليج العربي في الحقبة الراهنة من دول ثانوية في الشرق الأوسط إلى مركز ثقل صاعد وعنصر حاسم في التوازنات الدولية. ولكن فات المؤلفين الاهتمام بالتحولات الثقافية الهائلة في دول الخليج، سواء في تصنيع المنتوج الثقافي، أو في إنشاء المؤسسات المعرفية، أو في زخم التكوين العلمي والمعرفي الذي تشهده المنطقة؛ إذ يبدو أن ذلك الرأسمال الرمزي هو الضامن لإحداث التغيير الحقيقي في البناء الاجتماعي العام لدول الخليج. فدول الخليج لم تحصر دورها في التزويد بالطاقة، بل عوّلت على إحداث نهضة معرفية وثقافية في فضائها العربي العام، وحرصت دولها على الاستثمار في توطين المعارف. وربما مثال المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في هذا الجانب لافت، فقد أقدمتا على استثمارات هائلة في مجال التعليم العالي، من بينها إرساء شراكات علمية مع جامعات أميركية وفرنسية وبريطانية وفتح فروع جامعية في بلديهما.

من الظل إلى الدور القيادي
يرى الكتابُ دولَ الخليج مركز الثقل لمنطقة تُراوِحُ من المغرب الأقصى إلى مشارف أفغانستان. كما يَرى منطقة الخليج المحور الرئيس في الشرق الأوسط في العقد الثالث للقرن الحالي، وقد بدا ذلك جليًّا من خلال تنافس القوى الكبرى: أميركا والصين وروسيا، على خطب وُدّ دول المنطقة والتدافع على الفوز بإرساء تحالفات إستراتيجية معها. وما يخلص إليه الكاتبان هو أن بناء شراكة طاقية إستراتيجية مع دول الخليج، سواء من جانب الصين أو روسيا أو أميركا، هو ملف في غاية الحساسية والدقة، في ظل السياق العالمي الجيوسياسي الجديد متعدد القطبية، ومن جراء ما جرى في الساحة الدولية من خلط للأوراق، فيما يخص إنتاج الطاقة وترويجها، على إثر الحرب الروسية الأوكرانية. مثّل الخليج العربي عنصرًا فاعلًا في المستجدات الحاصلة منذ اندلاع الحرب، وهو الأمر الذي جعل بلدان الخليج تحضر بشكل مؤثر في تداعيات معركة الطاقة العالمية. كما يذهب الكاتبان إلى أن الخليج مرشح إلى أن يبقى مصدرًا أساسيًّا للطاقة البديلة، وأن التخلي التدريجي عن الطاقة التقليدية أو استبدالها، لن يفقد المنطقة دورها الإستراتيجي المستقبلي، بل سيدعم حظوظها.

لقد كشفت مواقف دول الخليج، من الحرب الروسية الأوكرانية، خروج المنطقة من ظل التابع للسياسة الأميركية لتلوح مرحلة شقّ دول الخليج نهج الحياد على مستوى سياسي، واعتماد براغماتية عملية على مستوى اقتصادي، وهي مستجدات مهمة في الخيارات الإستراتيجية الخليجية. ويدعم الكاتبان رأييهما بأن بريطانيا نفسها، الحليف والراعي التاريخي لبلدان الخليج، ما كانت تتصور تحول الخليج العربي إلى مركز ثقل في السياسة الاقتصادية العالمية بهذه السرعة والتأثير.

يرى المؤلفان أن المهمة الأساسية هي الفهم العميق للديناميكيات التي جرت في المنطقة ما بين عامَيْ 2011م و2021م، وهو الهدف الرئيس الذي يتمحور حوله الكتاب، بوصفه يمثّل أول مؤلف إيطالي جاد يتوخى التحليل الأكاديمي منهجًا، ويتابع آثار نمو دول الخليج وحضورها كفاعل ومؤثر في التوازنات الجيوسياسية والجيواقتصادية داخل الفضاء المترامي بين المتوسط ومنطقة جنوب غرب آسيا. عبر مسعى المؤلفين إلى تقديم تحليل مفصّل، يتوجه إلى جمهور القراء من جانب، ويتيح من جانب آخر أدوات قراءة للطلاب والمتخصصين من منظور دولي.

صِيغَ الكتاب بشكل علمي وأكاديمي، وتوخى فيه المؤلفان الدقة والراهنية في متابعة التحولات والتطورات الحاصلة. فإضافة إلى المصادر والمراجع الإنجليزية والإيطالية التي يستند إليها الكتاب في توصيف الحالة الخليجية وتحليل تطوراتها وأبعادها، على مستويات عدة، سياسية واقتصادية، إقليمية ودولية، أردف المؤلّفان الكتاب بالجداول والخرائط التوضيحية؛ ناهيك عن استعراض لأهم الشخصيات المؤثرة في الساحة الخليجية المعاصرة، تخلّلتها نبذات تستعرض مساراتها وحضورها. هذا إضافة إلى شرح لجملة من المصطلحات والمفاهيم، ذات الصلة بالواقع الخليجي والعربي، التي غالبًا ما تتكرر في وسائل الإعلام الغربي وفي الأدبيات والخطابات السياسية.

مستقبل الخليج العربي
يحاول الكتاب أن يأتي على عرضٍ بشأن تقييم علاقات الدول الغربية مع بلدان الخليج، عادًّا الحضور الإيطالي في خضمّ هذه التحالفات سطحيًّا، ويفتقر إلى التجذر، وهو يحتاج إلى مقاربة تكتيكية وبراغماتية تُجاري التحولات الجارية. انعكس ذلك الدور الإيطالي في سلبية مضرة مقارنةً بما تشهده المنطقة من صعود متنوع الأشكال. فقد ساد في أوساط الرأي العام الإيطالي، في مرحلة سابقة، موقف سلبي تجاه بلدان الخليج افتقر إلى الواقعية، ولعل الانبهار في السنوات الأخيرة بالإنجازات الخليجية، في أوساط الرأي العام الإيطالي، مثّل تصحيحًا ضروريًّا ولازمًا.

يختتم الكتاب بعنوان: «نظرة إلى المستقبل.. الخليج العربي عام 2030». يرى الكاتبان التحول الحاصل في الخليج قد انطلق منذ عام 2011م، على إثر أحداث ما يُعرف بـ«الربيع العربي» في الأدبيات السياسية. شهد الخليج في أثناء تلك العشرية حضورًا جيوستراتيجيًّا لافتًا، هذا إضافة إلى تعاظم دوره الاقتصادي، وليستمر مسار التحولات في العشرية التالية مع تزايد حدة الصراع بين القوتين العظميين روسيا والولايات المتحدة، وبروز الخليج كعنصر فاعل وحيوي في مجال الطاقة العالمية. فعلى إثر المقاطعة الشاملة لروسيا من جانب دول أوربا الغربية، بدا عامل الطاقة عنصرًا حيويًّا في العملية، وهو ما دفع الدول المقاطِعة إلى البحث عن مزوّدِين جدد. ساهمت تلك العوامل في إحداث ارتباك في سوق الطاقة عامةً. ولم تجد جملة من دول أوربا الغربية من سبيل لتَخَطّي العَقَبة الروسية سوى التحول صوب الخليج بنظرة جديدة.

بدت الشراكة الغربية الخليجية بحسب المؤلفين متحررة في خياراتها مع الطرف الأخير، وهو الأمر الذي جعل دول الخليج تجني مغانم مضاعفة وبما عزّز لديها فرص التخطيط لتغييرات جذرية في نوعية الطاقة، تكون بموجبه مصدرًا واعدًا ومقتدرًا للطاقة المتجددة، ولا سيما للهيدروجين الأخضر. يُنهي الكاتبان هذه الحوصلة بقولهما: يبقى إنشاء شراكة طاقية إستراتيجية مع دول الخليج ملفًّا في منتهى الحساسية، في ظل الوضع السياسي متعدد الأقطاب الذي يسير نحوه العالم، حيث يُطل الحضور الصيني بقوة في المنطقة من حيث التعاون الإستراتيجي الاقتصادي مع دول الخليج. فما يميز الشراكة الصينية هو غياب التدخل في الشأن الداخلي، والتعامل بشكل اقتصادي صرف، وهو ما يلتقي مع تطلعات دول الخليج حول إمكانية التحول إلى محطة تجارية عالمية رابطة بين آسيا وأوربا، إضافة إلى دورها التقليدي في مد قوى اقتصادية عالمية بالطاقة.

* منقول من مجلة الفيصل

مقالات ذات صلة