الأمين إبراهيم الأمين أحمد الحسين المعروف بالأمين الرزيقي انتمى للحزب الشيوعي السوداني في فجر شبابه وفجر السبعينات أو عند غروب شمس الستينيات في مدرسة حنتوب الثانوية، وأغمض القرن الماضي عينيه وكاد ربع قرن أن يمر على القرن الجديد ولم يغمض الرزيقي عينيه عن أجندة الريف والاستنارة والثورة، رحل عنا الأسبوع الماضي وغادر الحياة عند مليك رحيم في رحيل مفاجئ وصادم لأهله وأصدقائه.
بعد حنتوب الثانوية تم قبوله في كلية العلوم جامعة الخرطوم ولم يكمل دراسته بها وأكمل دراسته الجامعية لاحقاً في جامعة القاهرة بالخرطوم وعمل لمدة طويلة في مؤسسة النيل الأزرق الزراعية في مدينة سنار، وكان منظماً بارعاً في النشاط السياسي والتنظيمي السري وفي العمل النقابي وفي قيادة الحزب الشيوعي بالنيل الأزرق وتنظيماته العريقة التي تعود بداياتها إلى الخمسينيات وتحمل بصمات كامل محجوب ويوسف عبد المجيد البناة الأوائل لحركة المزارعين بمديرية النيل الأزرق والتي كانت تضم الجزيرة وسنار والنيل الأزرق الحالية.
في سنواته الأخيرة عمل مزارعاً في منطقة طابت واستقر مع أسرته وزوجته الأستاذة سهام بخيت في قرية كافي بالحلاوين .
تنقل الرزيقي في حياته بين مدن وقرى ووظائف مختلفة ولكن شيئاً وحيداً لازمه طوال رحلته ولم يتخلى عنه وهو قضايا الريف والثورة وحزبه، وقد رحل والمجتمع تمزقه حرب ضروس واعتداءات متكررة على المدنيين ولم يتح لكثير من أهله وأصدقائه تقديم واجب العزاء لأسرته في الأسبوع الماضي حينما غفى ولم يصحو عند الفجر .
في عام ١٩٧٣ بعد انتفاضة سبتمبر التي أطلق عليها الإسلاميين ثورة شعبان كنت حينها في نحو الثالثة عشر من عمري عندما التقيت بالرزيقي وصديقه بدوي محمد منقاش ( ود منقاش)، لقاءً لازال راسخاً في ذاكرتي فقد كان زمناً من أزمنة الخريف شهد هطول كثير من الأمطار وقد كانا طالبين في جامعة الخرطوم واتيا إلى الجزيرة بعد اغلاق الجامعة، كنت حينها قد اطّلعت للتو على كتب ووثائق حوتها مكتبة خالي مأمون عالم، من ضمنها كتيب (مجازر الشجرة) الذي يحكي عند إعدامات ١٩ يوليو ١٩٧١ وقد ترك هذا الكتيب اثراً بالغاً في وجداني وعقلي وكذلك أشعار محجوب شريف وكنت في بداية طريقي للتعرف على القضايا الفلسفية والسياسية الشائكة، طرحت أسئلة كثيرة على الرزيقي ومنقاش عن القضية الفلسطينية وعن حرب فيتنام واستمرت علاقتي السياسية بالرزيقي عبر السنوات في حوار متصل حول القضايا الوطنية وكان آخر لقاء لنا في ٢٠٢٣، بالإضافة لصلة القربى الوثيقة فقد كنت على الدوام أثمن ثباته في رحلته الطويلة في العمل السياسي.
بعد دخولي الحزب الشيوعي في عام ١٩٧٨ توثقت صلتي السياسية بالرزيقي وقد زرته على نحو منتظم في مدينة سنار حينما كنت بالمرحلة الثانوية، وتعرفت من خلاله على عالم مدينة سنار السياسي الساحر وشخوص العمل السري في تلك المدينة ضد نظام جعفر نميري ولقد كانت منطقة سنار تضم تنظيمات راسخة من قدامى الشيوعيين الذين يمثلون مجموعة فريدة كان لها باع طويل في تطوير الحياة الاجتماعية والثقافية والرياضية وبناء تنظيمات العمل الديمقراطي ومنظماته بسنار والنيل الأزرق، ولازلت اذكر رحلتين إلى كريمة البحر قرية الشيخ فرح ود تكتوك ، الأولي مع الرزيقي لزيارة عمنا الراحل والمناضل الكبير شيخ الخير ود بريمة رئيس اتحاد مزارعي النيل الأزرق ١٩٥٧-١٩٧١، والذي حكى لي عن زيارة عبد الخالق محجوب لقريته في بداية الخمسينات واثر تلك الزيارة على حركة المزارعين وتكوين اتحادهم وانضمام شيخ الخير للحزب الشيوعي، وقمت بزيارة شيخ الخير مرة ثانية وأجريت معه لقاءً مطولاً نُشر في جريدة الميدان وذهبت اليه مع القائد السياسي وأحد وجوه مدينة سنار ومناضليها عيسى أحمد أدم (حكيم)، وفي مدينة سنار تعرفت عن طريق الرزيقي على مناضلين افنوا سنوات طويلة من حياتهم في بناء التنظيمات الديمقراطية وقد غادر الكثيرين منهم الحياة ولكن لازالوا في خاطري، وقد ذهبت إلى حي الجنينة بالقرب من الخزان مراراً مع الرزيقي لزيارة المهندس زكريا ابو جودة وتعرفت من خلاله أيضاً على التجاني موسى عبد الكريم ذلك العامل المثقف، وقد ذكر لي والدي الأستاذ سعيد عرمان الذي كان يعمل معلماً بالمدارس الابتدائية بسنار، وهو بعيد عن العمل السياسي والشيوعيه انه قد التقى التجاني موسى عبد الكريم وذكر لي ان شيئين في الشيوعيين لفتا نظره انهم مثقفين ولا يتنازلون عن حقوق الناس في النقابات وقد توصل لذلك من خلال تجارب عديدة. التقيت في سنار بالعديد من الشيوعيين منهم محجوب علي محجوب وكناري والأستاذ والمثقف الرفيع محمد أحمد الشكري وعدد من قيادات حزب الأمة والاتحادي وقد كان ذلك في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ولابد لي ان اذكر المناضلة جواهر زوجة حكيم.
لعب الأمين الرزيقي دوراً هاماً في منطقة سنار وكان مسؤولها التنظيمي ،وكل ما التقيت بالمحترف الثوري وأحد ايقونات بناء الحركة الديمقراطية عبد الحميد علي (عثمان) (عثمان هوايد الليل الصمت والكتمان) الا وسألني عن الرزيقي وعن أحواله فقد كان الرزيقي منظماً لا يشق له غبار ومناضل جسور عمل على نشر الوعي في ريف السودان وفي العمل السري لسنوات طويلة وكان دوماً يفضل العمل خلف الكواليس.
الرزيقي كان مثقفاً ومنذ معرفتي السياسية به في نهاية السبعينات ما زرته والا وجدت منزله عامراً بكتابات وكتب محمود أمين العالم وحسين مُروة وكريم مُروة ورفعت السعيد ونوال السعداوي وترجمات وكتابات جورج طرابيشي وابو علي ياسين والطيب تزيني وفالح عبد الجبار ومحمد سلمان حسن وغيرهم، وكان الرزيقي معلماً حزبياً عظيماً، ولو كانت المادية التاريخية والجدلية تنطق بالثناء على أحد لنطقت باسمه فقد جذب أنظار كثير من الشباب.
الرزيقي لم يهجر حزبه في سنوات الاستبداد والعسف عندما كان الاسلاميون ممسكين بالسلطة فتمسك بحب الناس والأرض وعمل وسط غمار المزارعين البسطاء لاختراق جدار الشمولية السميك ومحاولة تحويل مشروع الجزيرة إلى ملكية لأغنياء التنظيم الإسلاموي وظل يدافع عن حقوق المزارعين مع القوة الوطنية والديمقراطية ورفض بيع أصول مشروع الجزيرة، لقد كان من طينة الكبار كما انه كان متواضعاً في ملبسه حتى تكاد ان لا تميزه بين الآلاف الترابلة والناس العاديين رغم تعليمه وثقافته العالية.
العزاء لاسرته وزوجته ولإخواته واخوانه بخيته وروضه وعمر ومحمد، الا رحم الله الرزيقي بقدر ما سعى لخير الناس وانسان الجزيرة والسودان الذي سيخرج من جرائم هذه الحرب مثل خروج العنقاء من الرماد أكثر قوة وبهاءً وجمالاً وخلوداً.
٢٣ مايو ٢٠٢٤