*البرهان وعزت: هل خرجت علينا الحرب من انقلاب مجهض؟ عبد الله علي إبراهيم*

 

جاء في كلمة للقائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان أمام ضباط وصف ضباط وجنود “الفرقة 18” بمدينة كوستي بولاية النيل الأبيض ما يجدد النقاش حول سؤال من أشعل الحرب القائمة في السودان بصورة مفيدة لبلوغ الغاية منه. وهو السؤال الذي تعاملت معه صفوتنا السياسية، على خطره، بإهمال إن لم نقل بحزبية نكداء. فطوته قوى الحرية والتغيير (قحت) التي تمثل الحداثيين والليبراليين واليسار، وقوى الإسلاميين في سراديب خلافاتهما التاريخية. فزعم كل منهما أن الآخر هو من أشعل ثقاب الحرب حتى بمعزل عن القوتين العسكريتين المتحاربتين.
قالت “قحت” إن الإسلاميين هم من أوقدوا نار الحرب وجرجروا الجيش من خطامه معهم ليعودوا أدراجهم للحكم، وفي المقابل قال الإسلاميون إن “قحت” هي التي أشعلت الحرب بعد أن أنذرت الجميع بالحرب العوان إن لم يتواضع الناس عند الاتفاق الإطاري الموقع بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في ديسمبر 2022، وكان ذلك أيضاً منها بالطبع حرصاً على عودة للحكم الذي نزعه عنها انقلاب الجيش و”الدعم السريع” عليها في أكتوبر 2021.
وتعيين مشعل الحرب أمر جلل. فهو تعيين للطرف المعتدي الذي يرخص له قانون الحرب الإنساني تجاوزات تطاول حتى المدنيين متى وظفوا مقارهم لعمل عسكري عدائي. وهو تجاوز بشروط معروفة بالتناسب، أي أن يمتنع الطرف المعتدي من استخدام رخصته هذه متى ما لم تتناسب الخسارة بين هؤلاء المدنيين والنفع العسكري منها، ناهيك بحق الطرف المعتدى عليه أن يستعين بمن شاء أو رغب، مثل الأمم المتحدة، في مساعدته على صد العدوان عليه. فتعيين الطرف المعتدي أمر حاكم لإدارة الحرب من ألفها إلى يائها. وانتهينا باعتباطنا سؤال من بدأ الحرب إلى حرب صفوية من وراء الحرب المشاهدة تستنفر كل جماعة الرأي العام ليصطف إلى جانب عقيدتها فيمن بدأ الحرب التي هي محض ثأرية صفوية حزبية ضريرة، استثقلناها تاريخياً بقولنا عن مثلها هذه “داحس والغبراء”.
جاء البرهان لكوستي ليكون قريباً ما وسعه للعزاء في شهداء قرية ود النوره من أعمال ولاية الجزيرة صرعى قوات الدعم السريع يوم الخامس من يونيو الجاري. واتهم خلال كلمته في ذلك العزاء “الدعم السريع” ببدء الحرب بانقلاب كانت أعدت له. وهذا بالطبع رأيه القديم لا محالة، لكنه جاء بما يعزز قوله وهو وجود مستشار “الدعم السريع” يوسف عزت في مباني الإذاعة والتلفزيون بأم درمان لإذاعة بيانات الانقلاب على الملأ. واستدل على ذلك بتسجيلات من كاميرات المراقبة في المبنى الذي استرده الجيش من “الدعم السريع” قبل شهرين أو نحوه.
وعرض التلفزيون القومي هذه التسجيلات في تقرير عنوانه “خيوط المؤامرة”. وجاء فيه أن عزت كان في مبنى الإذاعة والتلفزيون في الساعة السابعة من صباح يوم الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023 يوم الحرب ولأربعة أيام بعده. ويظهر عزت في التسجيلات في غرفة التحكم التلفزيوني داخلاً خارجاً، ويظهر في لقطات منها مع ضابط من “الدعم السريع” ومهندس يرتدي جلابية بلا عمة أو طاقية كمن استدعوه سراعاً من بيته للمهمة التي زعم “خيوط المؤامرة” أن المهندسين الآخرين ترفعوا عن إغراء جزرتها ولم يهابوا عصاتها. وواضح من الفيديو أن عزت كان متوتراً في وقفته إلى جانب المهندس الذي يحاول تشغيل البث التلفزيوني بلا طائل. وسبب العطل في قول التقرير أن مهندسي التلفزيون كانوا سحبوا إشارة البث من “عرب سات”. ومن أطرف ما في التسجيل أن عنصرين من مسلحي “الدعم السريع” شوهدا وهم يفتشان حقيبة عزت خلال غيبته عن الغرفة، وما سمعا بحركته حتى لملماها على عجل وهرعا ليجلسا على كنبة في الطرف الآخر.
ولم يتأخر عزت في الرد على البرهان. فقال إنه بالفعل كان في مبنى الإذاعة والتلفزيون مساء الـ 15 من أبريل 2023 ليذيع بيانات “الدعم السريع” بعد حادثة الغدر به في المدينة الرياضية. وقال إنه بث بيانات لـ “الدعم السريع” ليس في أي منها بيان بالانقلاب. وكان التقرير قد نقل ثلاثة منها. فجاء في واحد أن المعركة التي تابعها الناس منذ أمسهم شارفت على نهايتها. فالجيش هو المعتدي على “الدعم” الذي ينظف مع شرفاء القوات المسلحة الجيوب الباقية من المهاجمين. وزاد بأنها معركة اضطر إليها “الدعم السريع” اضطراراً في مواجهة إخوانهم في القوات المسلحة، وأنه سيكون للسودان بعد هزيمة العصابة جيش واحد قوي يعمل لخدمة السودان.
أما البيان الثاني فنفى فيه “الدعم السريع” خبر استيلاء الجيش على مقاره أو إغلاقه الطرق إلى القيادة العامة التي استولى “الدعم السريع” عليها وتدور المعارك في نطاقها. وقال إن “الدعم” في الواقع يسيطر على كل المواقع الحيوية في العاصمة والولايات، وأنه عثر على عناصر من هيئة العمليات التابعة لاستخبارات وأمن “نظام الإنقاذ” التي كانت قد حُلت وسكن “الدعم السريع” مساكنها بعد الثورة، وكتائب الظل المنسوبة إلى الإسلاميين والتي تقاتل مع الجيش ضدهم وشرفاء القوات المسلحة، وهم لحالهم مهزومون ملاحقون.
وفي بيان ثالث أعلن “الدعم السريع” سيطرته على القيادة العامة ورئاسة الفرق العسكرية في دارفور، فضلاً عن الاستيلاء على معسكرات للجيش في جبل أولياء وسوبا والباقير والتصنيع الحربي. وزاد بأنهم حددوا مواضع البرهان والفريق شمس الدين كباشي ويجري القبض عليهم. وأعلن عن انضمام مفتش القوات المسلحة اللواء مبارك كودي كتمور إلى صفهم، وأنهم ألقوا القبض على 42 قناصاً إسلامياً بقيادة على كرتي القيادي في “نظام الإنقاذ”.
وما أحبط التحقيق كمهنة في هذه الحرب أو غيرها من الكوارث هو صرف الوثيقة بأية ملابسات حولها، وكأن يمكن للتحقيق أن ينهض بغير توثيق، أو أنه لن يجاز إلا بالوثيقة التي يرضى طرف ما عنها. فصرف طرف تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) تسجيلات عزت لا لعوار في نصها من فوق فحص لمحتواها، بل لأن البرهان في قولهم ما كشف عنها إلا لتغطية عاره في خذلان قرية ود النورة. وبدا وكأن البرهان قد قدر أن يرفع عنه الحرج ودبر باتهام “الدعم السريع” بانقلاب كان الأصل في هذه الحرب. ويحتاج المرء إلى أن يسمع كلمة البرهان ليعرف أن لسانه عثر بواقعة هذا التسجيل بغير سابق تدبير. فجاء به بآخرة بعد أن بدا لثلاث مرات وكأنه فرغ مما عنده ليعود أدراجه ويتكلم مرة أخرى. ولا يعرف السياسيون السودانيون، والعسكريون منهم بالذات، متى استنفدوا ما عندهم من قول لجمهورهم لينصرفوا. فبعد أن يكاد الواحد منهم يودع الناس يطرأ له ما يسترسل به في خطابه من جديد. فالقول إن خبر التسجيلات كان لغرض في نفس البرهان شطط لا نريد له أن يعفينا من تحليل نص التسجيلات كشاهد من شواهد بلا عدد الحاجة إليها ماسة ليكون تعيين المعتدي في هذه الحرب مهنياً لا خبطاً حزبياً.
إن دواعي التسليم بالتسجيل وضبطه بالتحقيق تكاد تستصرخنا للأخذ به. فمثلاً قال تقرير “خيوط المؤامرة” إن عزت كان في صباح الانقلاب داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، بينما قال عزت إنه جاء إلى المبنى في مساء اليوم. وورد في تقرير “خيوط المؤامرة” تسجيل لعزت يتحدث لقناة تلفزيونية ما سألته عما كان يفعله في أول يوم للحرب. فقال إنه كان نائماً في بيته حين نقرت أمه باب غرفته وقالت له اصح، ولما صحا قالت له “في ضرب رصاص”، وقال “كان الضرب حول بيتنا”، ولمعرفة إن صح قول “خيوط المؤامرة” أم قول عزت وجب التحقيق في وقت تدوين التسجيل، وسيغنينا هذا الضبط لو حصل من لغو كثير.
ورد خبر انقلاب “الدعم السريع” الذي ساقنا إلى مهلكة الحرب مرات. ولولا استهتارنا بالشهادات عن ملابسات اشتعال الحرب لكان لنا منها جسد يغني عن التجديف الحزبي فيها. فكان الصحافي المحترم رئيس تحرير “جريدة التيار” عثمان ميرغني من أوائل من قال إن أول الحرب هذه كان انقلاباً رتبت له طائفة من “قحت” وليس جميعها، بمجلس سيادة ووزراء مدنيين. وكان الانقلاب سيتم بواجهة من الجيش وبيانه الأول مما اعتاده الناس منه. وسيقبلونه منه على علاته. وسيوفر “الدعم السريع” للانقلاب الإسناد والحماية. وقال عثمان إن الخطة فشلت بالمقاومة التي أبداها فريق حراسة البرهان ممن صدر الأمر باعتقاله بهدوء وإيداعه السجن. واشتعلت الحرب وتبددت هذه الشهادة من صحافي مجرب تحت جاذبية رواية أخرى لعثمان في الشهادة نفسها. وقال فيها إنه كان اجتمع مع حميدتي لثلاث ساعات قبل الحرب بدعوة منه بعد مقالة نصحه فيها أن يرجع عن مخاشنته مع الجيش لأنه سيفقد جيشه وماله ومكانته. وتعلق الناس بروايته عن حميدتي من دون التي عن الانقلاب. وحولوها إلى تحقيق فأنس وتلاشت كمفردة في لغز تعيين من بدأ الحرب تنتظر أن تتنزل مع غيرها في البحث عن المعتدي.
وجاء خبر انقلاب “الدعم السريع” بالتضامن مع “قحت” الذي أدى إلى الحرب عن مصدر غير متوقع وهو خالد محيي الدين، الناشط في “تقدم” وأسلافها في فيديو دائر. فقال إن الخلاف حول الإصلاح العسكري الذي أدارته “قحت”، والذي هو جزء مقدم في الاتفاق الإطاري، لم يكن حول المدة لاستكمال دمج الدعم السريع في القوات المسلحة. كان الخلاف الحق حول الإطاري، في قوله، بين من يريدون للجيش احتكار البندقية من دون غيره، حتى لا تتحول لداعم للقوى المدنية. ووضعاً للنقاط على الحروف قال إن دعاة خطة احتكار الجيش للسلاح هم “الحركة الإسلامية” التي لها زمام الجيش والتي أرادت أن تخلي يد غيرها من السلاح. وزاد بأن قال إنه كانت له رواية أخرى للواقعة من قبل، ولكن أعاد فيها النظر، وهو مسؤول عن روايته الأخيرة التي صدع بها. وقال إن حقيقة الأمر أنه تمت تفاهمات بين من رتبوا لقيام حكومة مدنية، وهم “قحت” ولا شك، يلعب “الدعم السريع” دور شرطي حراستها. ووافق “الدعم السريع” بعد عرض الخطة عليهم.
من حقنا والدعوات قائمة لإشراك الطبقة السياسة المدنية في مفاوضات إنهاء الحرب القائمة في السودان والترتيبات لما بعدها، أن نسأل إن كان ثمة جدوى من هذا الإشراك لهذه الطبقة التي اعتزلت الحرب نفسها بتحويلها إلى فتنة مأثورة بين يمينها ويسارها. فرأينا كيف تستدبر أطرافها الشهادات عن الحرب وتتخلص منها جزافاً بدلاً من مراكمتها جسداً سوياً لإعمال التحقيق فيها برصانة ومهنية ومسؤولية. وخلافاً لذلك نجدها ارتجلت التحقيق وبلغت فيه حداً سخرياً. فعلقت “تقدم” وزر بدء الحرب على الإسلاميين وغرضهم منها العودة للحكم. ومع ذلك ساور “تقدم” بعدها شك حول الجهة التي بدأت الحرب إذ كان من بين قرارات مؤتمرها في أديس أبابا في الأول من يناير الماضي تشكيل لجنة وطنية دولية ذات صدقية للتحقيق حول من أشعل الحرب. لكنها سرعان ما عادت في تقرير “الرؤية السياسية” لمؤتمرها التأسيسي في الـ 30 من مايو الماضي سيرتها القديمة لتحمّل الإسلاميين إشعال الحرب والعمل على استمرارها. وهذا تخليط يصح معه نصح من يريد التعامل مع القوى المدنية بأخذها مع “ذرة ملح”.

مقالات ذات صلة