إعترض طريقي منذ أول يوم رجل
معتدل القامة ،متوسط العمر ،دقيق تقاطيع الوجه كأنه من قبيلة (بني عامر )في شرق السودان، الدم الحامي السامي فيه بكميات متساوية. ليس به عاهة ولا توجد قي عينيه ذلة أو إنكسار تقدم نحوي كأنه ينتظرني ونظر إلي بجرأة تقرب من الوقاحة ..
“يا سوداني هات شلن !”
أعطيته ما سأل، عددتها عدا لا أقل ولا أكثر كأنني أقضي دينا .كأنني أوفي نذرا .كأنني أكفر عن خطيئة…
صار هذا شاني معه مدة إقامتي وحين إنتقلت الي هوتيل (كروشي دي سود) لحق بي ،لم يكن عسيرا عليه أن يعرف أين ذهبت .لم يكن متسولا .كان طالب حق .يدخل ويمشي علي مهل وقد يحي أحدا وقد يجلس في المقهي وقد يطلب قهوة …
لا يتحدث معي ولا يشكرني ياخذ(حقه) دون أي إحساس بالجميل..لا يعرف إسمي ولا عملي وأنا لم أسأله عن إسمه ولا عمله ..كان عاطلا بلا عمل ..لا شك ..
“أنا سوداني وكفي ”
لست إنجليزا ولا فرنسيا ولا إيطاليا ..الناس الذين تسببوا في البداية فيما حدث له .لا ، ولست سياد بري ، الرجل المسؤول مسؤلية مباشرة إنه الان عاطل عن العمل ..
ماذا أعطيته؟ بضعة شلنات لا أظنه أخذ مني طول مدة إقامتي أكثر مما قيمته عشرة دولارات .يذهب في سبيله وأذهب في سبيلي ..أحيانا أراه في المسجد القريب من الهوتيل في صلاة العشاء. كان يحلو لي أن أصلي العشاء في هذا المسجد..صوت الإمام حنون حزين ..يرتل القرآن بقراءة ورش …أراه نظيف الثياب ..حسن الهندام..موتزرا إزارا يمانيا وعلي راسه الطاقية الصومالية المزركشة، يتجاهلني كلية كأنه لا يعرفني .إنه هنا شخص أخر …ليس بيد الامريكان ولا الانجليز ولا الفرنساويين ليس بيد سياد بري ..إنه هنا في هذا المكان يعلم حقيقة نفسه…
بيد الذي لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع .سوداني أو صومالي مثله وأيضا عبدا من عباد الله سخره لما جعله “مستخلفا فيه علي قلته” .مثل عابر سبيل ،ضيف علي مائدة الحياة وكون الحياة أعطتني أكثر مما أعطته وجعلتني أعيش في باريس وهو في مقديشو وأعمل في منظمة اليونيسكو وهو عاطل بلا عمل …
تلك أيام يداولها الله بين الناس وهو العليم الخبير ….
– الطيب صالح