“من المفارقة أن يُضيق الغرب ممثلاً في البنك الدولي ومنظمة النقد الدولية على بلاد مثقلة بالديون مثل كينيا فلا يكون أمام بعض أهلها من مناص سوى الهجرة إلى أوروبا، في حين يتبنى الغرب نفسه استراتيجيات لإزالة الأسباب الجذرية لتجفيف الهجرة في منابعها الأفريقية”.
كانت كينيا في الفترة ما بين الأسبوع الأخير من مايو (أيار) والأخير من يونيو (حزيران) الماضيين في عناوين الإعلام البارزة. فكان رئيس جمهوريتها ويليام روتو زار الولايات المتحدة خلال مايو الماضي في أول زيارة رسمية لرئيس أفريقي منذ عام 2009. أما يوم الـ25 من يونيو الماضي فصادف أن نزلت طليعة البعثة المكونة من 400 ضابط شرطي ضمن بعثة بإشراف الأمم المتحدة وتمويل الولايات المتحدة وكندا لاستعادة الأمن والاستقرار في هايتي وهو نفس يوم اندلاع التظاهرات الشعبية في كينيا ضد مشروع قرار أمام البرلمان، لزيادة الضرائب على كاهل الناس.
وسنرى من تفاعل هذه الحوادث مع بعضها بعضاً كيف يزعزع الغرب القائم بالدعوة للديمقراطية في العالم أمة ذات “ديمقراطية استثنائية” في وصفه هو ذاته.
وكان الغرض من مشروع القانون الذي عرضه الرئيس روتو على البرلمان لإجازته هو توفير 207 بليونات دولار من طريق إجراءات ضريبية تمكن كينيا من سداد الديوان التي تثقل كاهلها. وهي ديوان بلغت 68 في المئة من الناتج الإجمالي القومي. فتدفع الحكومة جراءها ربع دخلها لسداد الديون والفائدة. وكان القرار بذلك حالاً كلاسيكية في تحميل الشعب عبء سداد ديوان لم تتنزل عليه في معاشه. ويعرف أنها ذهبت إلى جيوب صفوته الحاكمة. فأجر النائب البرلماني الذي كان سيصوت على مشروع القرار هو ثاني أعلى أجر لبرلماني في العالم (85 فاصل 800 ألف دولار) في بلد متوسط الدخل فيه 2000 دولار. وزاد الطين بلة أن الذين حملوا روتو لسدة الرئاسة قبل عامين انتظروا منه غير ذلك بعد وعده لهم المن والسلوى.
وكانت الديمقراطية التي ساغت للغرب من كينيا هي أولى ضحايا الحراك الكيني ضد مشروع قرار الضريبة. فبات الغرب يعتقد أن كينيا تتمتع بـ”ديمقراطية استثنائية” دون غيرها. ولكن العنف البدني واللفظي الذي لاقت به حكومة الحراك ألقى بظله على ديمقراطيتها المستحسنة. فراح 39 مواطناً ضحية للمواجهات مع الشرطة أمام البرلمان وفي أحياء أخرى. واستعانت الشرطة بقوات الجيش لاحتواء التظاهرات. وقال روتو عن الحراك إنه خيانة للبلد وهاجم “الديمقراطية بصورة غير مسبوقة” وإن القائمين به “مجرمون”، ليتدارك نفسه في يومه التالي فيمتنع عن التوقيع على مشروع القرار قائلاً كلمة ستبقى بحقه مهما كان “الشعب تكلم”. وكان أول ما خطر لمعلق من خبر الحراك أنه سيدفع أميركا إلى التفكر لأنه “لا سبيل للتجارة والمصالح الأمنية المشتركة أن تتنمى على حساب الديمقراطية وحكم القانون”.
وتتضاءل بالطبع فرص الديمقراطية في بلد ككينيا فقد ملك “ضبط موازنته” في قول الإنجليزية. وصار هذا الضبط في يد مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فكانا اشترطا ليسعفا كينيا بمزيد من القروض أن تسارع بسداد ما عليها. ورد فعل الكينيين على هذا الإملاء هو ما وضع ديمقراطيتهم على المحك. والبنك والصندوق ركيزتا النظام العالمي الذي هو مأثرة الغرب الديمقراطي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إنما يطلقان النار على قدميهما في عبارتهما حين يضيقان على مثل كينيا حول سداد قروضها تضييقاً لا يضع أمام شبابها سبيلاً سوى الثورة، التي تقرض من قماشة الديمقراطية كما رأينا، أو الهجرة إلى الغرب التي تكاد تسلب الغرب نفسه ديمقراطيته بتسليم حكوماته لأحزاب اليمين المتطرف المشاهد.
ومن المفارقة أن يضيق الغرب ممثلاً في البنك الدولي ومنظمة النقد الدولية على بلاد مثقلة بالديون مثل كينيا فلا يكون أمام بعض أهلها من مناص سوى الهجرة إلى أوروبا، في حين يتبنى الغرب نفسه استراتيجيات لإزالة الأسباب الجذرية لتجفيف الهجرة في منابعها الأفريقية. فللاتحاد الأوروبي صندوق مالي للغرض أنفق منه على أفريقيا 441 مليون يورو عام 2022 لتمويل دول منها لإتاحة فرص العمل لشبابها ليبقوا في بلدهم من دون عبور البحر الأبيض المتوسط. فاستنفرت أميركا بقيادة كاميلا هاريس نائب رئيس الجمهورية موارد الدولة والقطاع الخاص للاستثمار في مشروعات تنموية طويلة المدى للحد من الهجرة إليها من أميركا اللاتينية. فحصلت على 1 فاصل 2 مليار دولار عوناً لها لخلق فرص أوسع لشعوبها تغنيهم عن الهجرة. فكيف يستقيم منطق أن تضيق على دولة لسداد ديونها على دائر المليم من جهة، في حين تسعى من الجهة الأخرى إلى تلافى الإفقار الذي ينجم عن هذا التضييق بتمويل إسعافي لا يغني شيئاً؟ وهذا مما نقول عنه يفلق ويداوي.
وغير خاف أيضاً أن ما ظفرت به كينيا من منزلة في الغرب مما رأينا لتطوعها بابتعاث 1000 شرطي، ينضم لهم 350 شرطياً من جامايكا والباهاما لمساعدة شرطة هايتي لاستعادة القانون والنظام. وستمول الولايات المتحدة وكندا هذه البعثة التي تشرف عليها الأمم المتحدة. فأسعفت كينيا بتطوعها هذا البلدين اللذين أصابهما الإرهاق من نجدة هايتي أو حتى احتلاها. فعلاقة أميركا بها قديمة وتضمنت احتلالها عسكرياً من 1915 إلى 1934. وكان أول اهتمام الأمم المتحدة بهايتي خلال عام 1990 فأشرفت يومها على انتخابات رئاسية بعد الانقلاب على رئيسها آرستيد عام 1991. ثم عادت في مهمة مدنية انتهت بطردها بقرار من نظام عسكري عام 1994، لتأتي بقيادة أميركا في العام نفسه بمهمة حفظ سلام واستعادة الديمقراطية وآرستيد رئيساً كما كان. وهي المهمة التي جرى فيها حل جيش هايتي وخروجه من الخدمة لتحل مكانه الشرطة المعانة من أميركا. وغادرت الأمم المتحدة خلال عام 2000 بعد أداء مهمتها لتعود عام 2004 في عملية تمشيط لاستعادة الأمن والنظام ولتبقى حتى عام 2017 لتغادر غير مأسوف عليها من كثير من أهل هايتي.
وجر الحراك الكيني ذيله الدامي على مهمة شرطتها في هايتي التي جاءت ضمن المصالح الأمنية المشتركة لكينيا مع أميركا. فطرأ السؤال لمنظمات حقوق الإنسان بعد ما شهدته من المواجهة المضرجة في كينيا وهو: ماذا لو عملت شرطة كينيا في هايتي ما عملته في أهل بلدها؟ وهو سؤال لا مهرب منه لأن جنود بعثة أخيرة للأمم المتحدة في هايتي لاحقتهم لعنة اغتصاب نساء الجزيرة، بل ونشر بعض جنودها الكوليرا بين السكان. وعلاوة على أن قرار بعث الشرطة الكينية لهايتي ما لم تجزه المحكمة العليا فيها. فقضت بأن ابتعاث الكينيين في مهمة عسكرية مقتصر على القوات المسلحة، أو للبلاد التي لكينيا بروتوكولات مرعية معها في هذا الجانب. وكان إرسال الشرطة الكينية إلى هايتي خرقاً للديمقراطية غير منتظر من ديمقراطية استثنائية.
وحذر معلقون من أن شرطة كينيا ربما لم تتحسب لما ستلقاه من رمال هايتي المتحركة. فأزمة هايتي ليست تحدياً مما تنتدب له الشرطة. فهي بالأحرى كابوس حرب مدن ستلقى فيها أعداء لا يعرف الخوف طريقاً إليهم، تحولوا في بحر ثلاثة أعوام من عصابات إلى ميليشيات شديدة البأس. فهي تحتل 90 في المئة من العاصمة مقسمة إلى إقطاعات تسيطر كل عصابة على واحدة أو أكثر منها. واكتسبوا مهارة القنص من وظيفتهم كحراس على أحيائهم. وتعرف العصابات عن مداخل المدينة ومخارجها ومهروا في القتال في خضم صراعات الجماعات واحدها بالآخر. بل بينهم عدد مرموق كانوا بشرطة البلد أو تلقوا تدريباً عسكرياً. والسلاح منتشر أحصوا مليون قطعة سلاح في 2020 وزادت بالتهريب. فهذه حرب استعجب أحدهم أن تبعث شرطة لخوضها لا جيشاً.
ومن الجهة الأخرى فالشرطة التي جاءت كينيا لتعيينها في أضعف حالاتها. قتلت العصابات منها 43 في غضون النصف الأول من عام 2023. وحرقت مراكزها واغتالت قادتها فتدنت روحها المعنوية وتراخى التجنيد لها 30 في المئة لعام 2023 عن عام 2022. وتعاني نقصاً في التسليح لأن الداعمين لها في أميركا وكندا يخافون أن يتسرب ما يتوافر لها من سلاح إلى أيد مجرمة. وبسبب أن أفراد الشرطة يعيشون في أحياء تحت سيطرة العصابات فتجد أن سبلهم والعصابات واصلة، وقد يضطرهم ضعف الأجر أو عدم صرفه إلى التعاون مع العصابات.
ويبدو أن نقد كثيرين للغرب على مبدئية دعوته المركزية لنشر الديمقراطية في أفريقيا ليس إبعاداً في النجعة. فها نحن نرى الديمقراطية الأقدم في أفريقيا الاستثنائية مشردة في مهب رياح مصالحه وأغراضه.