مرت العلاقة بين حزب الأمة القومي ومليشيا الدعم السريع بأربع مراحل:
أولاً:العداء الكامل.
ثانياً: المغازلة.
ثالثا:التطبيع.
رابعا: المصالح الاستراتيجية.
وكما أوضحنا في مقال سابق، فإن العلاقة التاريخية بين حزب الأمة والمليشيات عموما، التي وصلت مرحلة الإشراف المباشر على تسليح القبائل وإجازة قانون الدفاع الشعبي في مرحلتي القراءة الأولى والثانية في عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق، الصادق المهدي تحت قبة برلمان الديمقراطية الثالثة. فإننا نخصص هذا المقال، لنتناول فيه المراحل الأربع التي مرت بها علاقة حزب الأمة مع مليشيا الدعم السريع تحديدا.
أولاً: مرحلة العداء المطلق:
بلغت الخصومة أوجها بين الطرفين في عهد حكومة البشير، حينما تم سجن الإمام الراحل الصادق المهدي، بعد أن حققت معه نيابة أمن الدولة، إثر تصريح له خلال مؤتمر صحفي عقده في مايو 2014 انتقد فيه الدعم السريع واتهمه بارتكاب جرائم في دارفور.
ثانياً: مرحلة المغازلة
بدأها الصادق المهدي بنفسه، بعد سقوط حكومة البشير، انتقل فيها الصادق المهدي من خانة توجيه الاتهامات للدعم السريع إلى تصريحات مباشرة كال فيها المدح والثناء على وطنيتهم و حرصهم على مصلحة الوطن و تمردهم على البشير وانحيازهم للفترة الانتقالية واعتبرهم الشريك الأصيل في الثورة، و وصفهم بالقوة التي ستجلب الديمقراطية. وختم الامام مغازلته بدعوة صريحة لحميدتي بالانضمام إلى صفوف حزب الأمة لضمان مستقبل سياسي بعد أن يخلع البزة العسكرية. (جاءت هذه التصريحات في لقاء أجرته معه قناة الغد بتاريخ 9 أغسطس 2019).
هذه التصريحات بما تؤكده من إمكانية تحالف النقيضين لتحقيق مصالح مشتركة، فإنها تقفز فوق الشعار التعبوي: (الجنجويد ينحل)، و تظهر من ناحية أخرى الشخصية البراغماتية للسيد الصادق وكل إدارات حزب الأمة القومي المتعاقبة واستعدادهم للتعامل مع المليشيات وتوظيف نفوذها ومقدراتها لصالح الحزب تحديداً مع إجراء بعض التغييرات الديكورية تتيح للطرفين الادعاء ب شرعية التعامل المتبادل. مما يؤكد أن المكاسب وليس المبادئ هي التى قادت حزب الأمة لهذا التوجه الجديد.
ثالثاً: مرحلة التطبيع
التقط حميدتي القفاز و رد التحية بأحسن منها في زيارة وفد من “الدعم السريع” إلى دار حزب الأمة، في آخر منشط سياسي للحزب، إبان التمهيد للإتفاق الإطاري تبرع فيه وفد المليشيا بعدد من العربات والأموال. وكان التبرع على شاكلة مايعرف شعبياً باحتفال (القونات) إذ وقفت إحدى نساء الدعم السريع في منصة التبرع وهي تهتف بقيم متسلسلة من التبرعات: (5 مليار، 10 مليار، 23 مليار)، و تنطق مع كل رقم كلمة شعبية وهي (شوبش). ومن حول هذه المرأة تتجمهر جماعة من “الدعم السريع” بعضهم ينقل الأموال و يعرضها للجمهور فوق المنصة أمام الكاميرات وبعضهم يصدر جلبة حماسية و بعض النساء يزغردن، وبعضهن يرددن اسم حميدتي و كل ذلك أمام كاميرات التصوير في الفضاء الإعلامي المفتوح و بحضور قيادات من الطرفين، داخل دار حزب الأمة. (المصدر فيديو منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي يوثق هذه الحادثة).
هذه الأموال، ليس لها أي تفسير غير أنها إعلان رسمي وتدشين لمرحلة التطبيع الكامل، الذي تجاوز مرحلتي العداء ثم الغزل إلى التطبيع الكامل و تبادل ما يمكن تسميته، بالرشاوى السياسية للإنتقال إلى تشبيك المصالح والتمهيد لمرحلة العلاقات الاستراتيجية التي يتداخل فيها الحزبي مع القبلي مع المليشوي مع قوة السلاح مع ذراع الدولة.
الإعلان السابق للإمام الصادق المهدي بأن الدعم السريع قوة أصيلة في الثورة، أوجد المبرر الأخلاقي لأن تتحول طبيعة الدعم السريع من “جنجويد” مطلوب حلهم، إلى قوة أصيلة من مكونات حكومات الفترة الانتقالية شريكة بندية كاملة مع مكوناتها الأخرى وعلى رأسها حزب الأمة. و الآلية الأكبر لحفظ هذه الشراكة هي أن يتمتع الدعم السريع بنصيبه كاملاً من نسبة توزيع الحقائب الوزارية و كل الوظائف القيادية الكبرى في الدولة. وهو الباب الذي دخل من خلاله حميدتي إلى أمبرطوريته الخاصة عبر عدد من المناصب التي تقلدها شخصيا، منها رئاسته للجنة الطوارئ الاقتصادية وينوب عنه د. حمدوك (مع ملاحظة أن وزير المالية حزب أمة)، ورئاسته للجنة السلام، وعدد من الوزارات كانت من نصيب الدعم السريع على رأسها وزارة الزراعة، مع امتلاك عدد من البنوك، ومناصب في الإدارة العليا لبنك السودان المركزي، وتعيين عدد من وكلاء النيابة يتبعون للدعم السريع، … الخ.
ليس ذلك فحسب، بل تمددت هذه الإمبراطورية باتفاقية رسمية مع وزير المالية د. ابراهيم البدوي (حزب أمة) في ديسمبر 2019 يحتكر فيها الدعم السريع تجارة الذهب (300 كيلوجرام في اليوم)، ويحتكر استيراد احتياجات الدولة من السلع الاستراتيجية مثل القمح والبترول وغيرها، مع إعفائه من كل حصائل الصادر. (المصدر: مؤتمر صحفي لوزير المالية د. البدوي في وكالة سونا للانباء بتاريخ 5/3/2020). وحتى تكتمل الصورة التي توضح رعاية حزب الأمة لمصالح الدعم السريع في الحكومة، ولكي يتعايش الرأي العام مع الخطأ المبدئي الناتج عن توقيع العقد الاحتكاري بين الحكومة عبر وزير المالية مع الدعم السريع ممثلا في شركة الفاخر، يجب أن نضيف إلى هذا المشهد موقفين هما:
1/ أن تتولى شخصيات نافذة من حزب الأمة القومي في الحكومة (صلاح مناع و عروة الصادق)، شن حرب شعواء على مؤسسات الدولة الاقتصادية، مثل محاربة شركات الجيش و الشركات الوطنية مثل شركة زادنا والشركات الاستثمارية مثل شركة زين للإتصال، … الخ. (فتحت هذه الشركات بلاغات ضد القيادي بحزب الأمة صلاح مناع).
2/ أن تقوم الحكومة عبر وزارة المالية بحملة دعاية إعلامية لصالح شركات الدعم السريع و امتداح وطنيتها و مشروعيتها.
وهكذا، استمرت العلاقة بين حزب الأمة القومي والمليشيا على هذا النسق من تبادل المصالح والحماية والدعاية، بالرغم من فشل الحكومة و رغم المطبات السياسية التي مرت بها الفترة الانتقالية وبالرغم من الاحتجاج الشعبي الواسع على التجاوزات المهنية التي تستمر عليها هذه العلاقة واستخدام النيابة لإرهاب المنتقدين لها. (نضرب مثال بسلسلة مقالات الصحفي د. مزمل أبو القاسم عن أخطاء عقود شركة الفاخر، لجوء شركة زين إلى القضاء…الخ).
ظل الحال هكذا، إلى أن جاءت مرحلة الاتفاق الإطاري وهي مرحلة العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين تحت إشراف إقليمي و دولي عرف بمجموعة الرباعية، وهنا يجدر التذكير بالتصريح الشهير لحميدتي: (كراعنا فوق رقبتنا، مسيرانا السفارات)، وبذلك صمدت هذه العلاقة أمام كل المطبات التي واجهتها بما فيها الحرب التي استمرت فيها حالة التحالف بين الطرفين رغم حمولتها الأخلاقية والقانونية والاجتماعية والأخلاقية.
رابعاً:مرحلة العلاقة الاستراتيجية:
الاتفاق الإطاري في جوهره هو اتفاق على كيفية إدارة الدولة عبر ذراعين. الذراع العسكري ويمثله الدعم السريع والذراع المدني وتمثله مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، و حزب الأمة القومي هو أكبر أحزابها. ولذلك هو اتفاق يخدم مصالحهما ويجمع بينهما بأكثر من الآخرين. لذا فقد تشاركا الترويج للفكرة و فرضها على الآخرين حينما هاجمتها القوى اليسارية وانسحبت منها واسمتها شراكة الدم.
هنا استقل القيادي في حزب الأمة الصديق الصادق هذه المساحة وأكد أنهم وحدهم من (يهندسون العملية السياسية ويحددون أطرافها و يوزعون لهم الأدوار) أما أخته د. مريم فقد دافعت عن استعانتهم بخبراء أجانب لكتابة مسودة دستور نقابة المحامين . وعلى إثر فضيحة استعانة القوى السياسية بالسفارات الأجنبية وخاصة دولة الإمارات، وحين اندلاع الحرب، لم يجد رئيس حزب الأمة اللواء برمة ناصر، مكاناً غير دولة الأمارات وانتقل إليها هو وأسرته للعيش فيها.
وهكذا تطورت الأحداث وفق هذه العلاقة الاستراتيجية.
العلاقة الاستراتيجية في زمن الحرب
تجسدت العلاقة الاستراتيجية وظهرت بصورة جلية واضحة في جميع أنواعها السياسية والاقتصادية والإعلامية والأمنية لدرجة المشاركة المباشرة في الحرب و تجنيد المواطنين في صفوف المليشيا و تحمل المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والقانونية مناصفة مع الدعم السريع، عن جرائم الحرب في عدد من الولايات. مع انفراد كوادر حزب الأمة بتحمل المسؤولية عن معاونة المليشيا في تكوين الإدارات المدنية في أماكن سيطرة الدعم السريع .
العلاقة بين حزب الأمة القومي والدعم السريع في عدد من الولايات
أما انخراط القيادات التاريخية لحزب الأمة في ولايات النيل الأبيض والجزيرة وسنار، في صفوف المليشيا فحدث ولا حرج. علما بأن كل هذه القيادات أعلنت انحيازها ومساندتها للدعم السريع في حشود جماهيرية علنيه وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي كافة. ولم تعلن قيادة حزب الأمة تنصلها من مواقفهم أو يتخذ قراراً بفصلها من صفوفه كما فعلت بعض الأحزاب السياسية الأخرى. علما بأن هذه المواقف جاءت متسقة مع تصريحات قيادات الحزب بالمركز ومتسقة مع الاتفاقية الموقع عليها في أديس أبابا والتي تدعو المواطنين بالداخل إلى التعايش مع الدعم السريع وإسناده عبر إدارات مدنية مشتركة. اي لم تكن لتقديرات شخصية أو بدوافع قبلية أو باغراءت من المليشيا لاستدراج هذه القيادات. وانما كانت مشاركتهم وفق الخط العام للحزب.
ولاية النيل الأبيض
نبدأ من ولاية النيل الأبيض بالأخوين يحى و منتصر من عائلة هباني، فقد أعلنا مساندتهما للمليشيا علنا، و أشرفا على تجنيد شباب الولاية في صفوفها وتدريبهم وتوليا التسويق الاجتماعي لهذه الفكرة في كل مدن وقرى الولاية. كما أعلن الدعم السريع عن تعيين القيادي في حزب الأمة صديق سنادة، معتمداً لمحلية القطينة والقيادي الآخر في حزب الأمة، محمد خورشيد، مستشارا له.
ولاية الجزيرة
لقد كان انخراط قيادات حزب الأمة فيها مع الدعم السريع أكبر بكثير من الولايات الأخرى. فقد شكل الدعم السريع إدارة مدنية يرأس مجلسها التأسيسي القيادي في حزب الأمة د. أحمد محمد البشير، ضمن 31 عضوا غالبيتهم من حزب الأمة تم ترشيحهم إلى الدعم السريع من قبل الأمين العام لحزب الأمة الواثق البرير. بينما يرأس المكتب التنفيذي القيادي الآخر بحزب الأمة د. صديق عثمان أحمد (المصدر: تصريحات القيادي بحزب الأمة الصحفي محمد الماحي لموقع ألتراسودان بتاريخ 11/4/2024). كما تم تعيين عدد من العمد الموالين لحميدتي، في الإدارة الأهلية، كل ذلك بغطاء سياسي وإعلامي مباشر من تصريحات وكتابات قيادات حزب الأمة.
ولاية غرب كردفان
تقول المعلومات أن معظم قيادات الصف الاول لحزب الأمة القومي على مستوى الولاية، انضموا علنا إلى الدعم السريع وأعلنوا دعمهم وانحيازهم له ومشاركتهم في ارتكازاته ويقودون حملاته الإعلامية والسياسية والتعبئة العسكرية وقادوا حملات فاشلة لإسقاط بابنوسة وتسببوا في إسقاط مدينة الفولة ويعقدون اجتماعاتهم بحي السلام. تذكر أحاديث المدينة أن من أبرز هؤلاء القيادات: 1/ حسن شيخ الدين، رئيس حزب الأمة القومي في الولاية. 2/ المحامي محمد ابراهيم الأحمر، القيادي بحزب الأمة القومي، ورئيس تقدم في المجلد. 3/ حماد خاطر جمعة الرجل الثاني في حزب الأمة القومي بالولاية. 4/ محمد أبوعين بشتنة، عضو المكتب التنفيذي لحزب الأمة القومي، عضو استشارية الدعم السريع. 5/ المحامي حامد أبو جبر. 6/ الموظف بوزارة المالية حباب دكو. (المصدر مشاركات هؤلاء القادة علنية و معلنة و منشورة عبر عدد من الفيديوهات على وسائل التواصل الإعلامي)
أخيراً وليس آخراً
العلاقة بين حزب الأمة القومي والدعم السريع، ليست كعلاقته مع القوى الأخرى مهما كانت المآخذ على تلك العلاقات. فقد أُتهم حزب الأمة سابقاً بأخذ أموال ضخمة وعربات من حزب المؤتمر الوطني، واعترف السيد الصديق الصادق بإقامة شراكة استثمارية مع حزب المؤتمر الوطني، وأقام الإمام مهادنة سياسية مع الانقاذ، بدخول الأمير عبد الرحمن الصادق إلى القصر الرئاسي مستشاراً للبشير، إلا أن علاقة حزب الأمة مع المليشيا علاقة فريدة ومختلفة. فقد تعمقت هذه العلاقة و تنوعت إلى درجة استراتيجية شبه وجودية لايمكن تعديلها ولا الرجوع عنها. قوامها المال المشترك، والذهب، والتجارة، والسياسة، والمشاركة في ارتكاب الجرائم، و تحمل المسؤولية عن دماء الضحايا وحقوقهم و يميزها أيضا الانصياع الكامل لتوجيهات الخارج، الذي يديرها بالكامل ويمولها ويملي عليهما كل تفاصيلها. هذه العلاقة هي قنبلة موقوتة وصلت مرحلة الانفجار بين الحزب وقواعده إذ أنه لا يستطيع أي قيادي لا في حزب الأمة ولا في المليشيا إقامة أي منشط منفرد أو مشترك داخل السودان بسبب الغضب الجماهيري على هذه العلاقة.
كما أنها من ناحية أخرى وصلت مرحلة ما قبل الانفجار داخل كابينة الحزب وداخل بيت الامام نفسه، فالحزب الآن منقسم بسبب هذه العلاقة وحدها إلى قسمين. قسم يقوده الرئيس برمة، والأمين العام الواثق وتدعمه زوجته بنت الامام و الصديق الصادق، وهذا خطه هو الاستفادة من بندقية المليشيا للحصول على السلطة في المستقبل محمولا على أكتاف الخارج محروساً ببندقية المليشيا. بينما يقود القسم الآخر نواب رئيس الحزب اللواء صديق إسماعيل والرئيس بالإنابة محمد الدومة، و ما يُعرف بجناح المكتب الرئاسي، و د. عبد الرحمن الغالي وزوجته رباح الصادق الذين يرون أن الحزب انحرف عن مساره القومي ولا بد من العودة إليه. بينما تقف د. مريم حائرة لا تستطيع حبس دموعها في أي مناسبة أو أي تصريح تنفجر باكية تعلن عن حسرتها وندمها و تحملها المسؤولية. أما الأمير عبدالرحمن، فأراد أن يعبر عن موقفه في الخطوط الأمامية للحرب، قائلا: أخوك لو وقف مع المليشيا يصير عدوك.
almohagig.com/?p=8545
*منقول