أنا مغرم كبير بكلمة “شآبيب”. آخر مرة جاءت على سنة قلمي قبل أيام حين دعوت الله أن ينزل شآبيب السكينة على قلب الداعية أبو زيد محمد حمزة الذي ابتلاه ربه بما هو معروف. ولم أعبأ أبداً بشخصيتها اللغوية من حيث الإفراد والجمع أو التصريف. فلم اتوقف حتى لأعرف ما مفردها على وضوح أنها جمع. ولم استخدمها إلا في معناها الدارج ترحماً وتسكاباً لفضل الرب على العباد.
ثم فجاءة وقع ما أخرجني من إيمان العجائز بشآبيب إلى وعي بها. فقد أرسل لي عزيزنا منصور المفتاح، الذي يجمعنا عشق فاحش لبادية الكبابيش، كلمة للاستاذ حنفي الجراري حملت نصوصاً شعرية للشيخ جامع على التوم، ابن السير على التوم والنائب البرلماني السابق وممثل ناظر العموم على جبرة الشيخ. وعرفت جامعاً منذ 1966 ولم أعرف عنه خصلة الشعر ولم يدلني عليها دال. والتقيت به في عيد الفطر الماضي بعد غياب ولا ذكر للشعر. وقرأت النصوص ووجدت جامعاً من الطبقة الأولى من شعراء بادية شمال كردفان من وزن الساعور وعناد ومحمد فضل الله العائدي وشَبًت وغيرهم كثير تجدهم في كتابي “فرسان كنجرت” (1999).
ووقفت عند مسداره “بت دعتورة”. وهي ناقته (وناجيته). وهي عن رحلته للجنوب ليتدارك بقراً له أصابه “الرزيز” من المَحَل بشمال كردفان. فأصعَد به ومجده في القشة العضية ثم أسفل بنياقه إلى حدود ليبيا في رحلة “الجزو”. وهي موسم كرنفالي للرعاة أحسن تصويره الاستاذ حسن نجيلة في كتابه “ذكرياتي في البادية”.
قال جامع في مربوعة من مسداره:
قطعن (النياق) بدري بوادي الملوّي وخبّن
وبنات دعتورة (النياق) فوق ود العنانيف (؟) ربّن
قش السافل اسّاع (الحين) يا أم عراقيب لبّن
وليهو ليالي يوم من الأشابيب صبّن
يا جامع ود الشيخ! هذه آشابيبي نفسها صارت عندك “الأشابيب”. وهي من صيغ منتهى الجموع عند الكباببيش. فهم يقولون “الفَاقِر” في جمع “الفقير-الفكي”.
ولم أعد اقاوم تعقب كلمتي “الفصيحة” العجيبة تخطر لشاعر عامي بوادي الملّوى “بين الدخول فحومل”. ولم يعد أمر هذا التعقب عسيراً بعد فتح الفتوح: قوقول الذي حوى أمهات المعاجم العربية. وكنت استفظع حيازتها في صورتها الورقية وأعجب لها تحدق بمحمد عبد الحي كالغرانيق. ونظرت في المعجم فوجدت أن مفردها شُؤبوب وهي الدُفعة من المطر. فشآبيب المطر دُفعاته.
وأنتبه أيها القارئ هنا إلى تكييف هذه الكلمة لتدل على خصائص بعينها من المطر تمييزاً بين الظواهر في الدرجة والصفة. فالشآبيب هو المطر يصيب المكان ويخطيء الآخر. ولن يعرف خطر هذا التشقيق إلا من يكابده. فقد وقفت يوماً في البادية عند الخط الفاصل بين الماطر وغير الماطر في موضع ما. تلك صفحة الأرض توشيها آشابيب جامع ود الشيخ. والشآبيب ليست أي مطر ولكنه المطر الذي فيه برد. هذه سعة في العربية نقصر دونها ثم نرفث تمجيداً غير مستحق للأعاجم.
ولا أدري لماذا جمدنا “شآبيب” عند الحزن والمغفرة. فالعرب تصف بها كل متدل كالمطر. فخيوط الصمغ التي تتدلى من الشجر هي شآبيب الصمغ. والدمع شآبيب. قال:
إذا ما التقينا سال من عَبَراتنا شآبيب ينأى سيلها بالأصابع
أما سعة الكلمة التي “كتلتني كتلة” فهي “حسنة شآبيب الوجه” وهو أول ما يظهر من حسن المرأة في عين الناظر إليها. شكوت قديماً أن ضيق ماعوننا اللغوي أفقر ملكة الغزل وبيانه. ونبهت إلى غزل عبد الله الطيب الدامغ الرافد من سعة قاموسه في مقالي “عربي فلا يقرأ” من كتابي “أنس الكتب” (1985).
جامع: عربك إزيهمو؟
(من أرشيفي)