” كلمة أخيرة من عطبرة المجيدة. تعلمون كم نسخة وزعت من العدد: 1850 نسخة وهذا رقم لم تصله جريدة سودانية في أي بلد من بلاد الأقاليم من قبل”، سمير جرجس.
(كنت خرجت في حملة لبيع كتبي لصالح مشروع إنساني متصل بالحرب القائمة. وطوال ما فكرت في المشروع، وخلال تنفيذه، كان ملهمي المرحوم الرفيق سمير جرجس مدير تحرير جريدة الميدان (1954-1958، 1964-1965) ومكره في استدرار مورد يبقي “الميدان” على كفاف صحيفة لكادحين. فهو داخل في عداد من أجرينا المشروع صدقة لأرواحهم. رحم الله “الخواجة” كما اشتهر بينا).
قرأت كلمتين مؤثرتين في محاسن فقيد الوطن سمير جرجس لكل من كمال الجزولي والسر مكي أبوزيد. وقد استصفيا في الفقيد وقوفه رمزاً على السماحة السياسية التي سلفت في الخمسينات والستينات. وهي سماحة جعلت منه، وهو من الأقلية القبطية والدينية بمكان، كادراً سياسياً مرموقاً في حركة اشتراكية اجتماعية لغمار الناس.
وقد نبه الجزولي إلى فضل الأقباط عامة في تعليم غيرهم من المواطنين حرفاً اقتصرت عليهم من قبل. وأردت في كلمتي هذه في نعي الراحل العزيز أن اتنزل بكلمة الجزولي من عمومها القبطي إلى ما لقنه سمير شخصياً لرفاقه في الحزب الشيوعي حين تولي إدارة تحرير جريدة «الميدان» لدورتين من دورات صدورها في العلن وهي الفترة 1954 إلى 1958 ومن 1965 إلى 1966. ولم يكن سمير ضمن أسرة تحرير «الميدان» في الفترة الثالثة (1985-1989) لخروجه عن الحزب الشيوعي في ملابسات انقلاب مايو 1969م. وسيقتصر حديثي على الفترة الأولى بالنظر إلى توفر بعض أرشيف جريدة «الميدان» لتلك الدورة بطرفي.
جاء سمير إلى «الميدان» بخبرة أهله الأقباط في الدبارة وإدارة الأعمال. وكان مدير تحرير ومديراً مالياً في وقت واحد. بل ربما غلب الدور الأخير علي الأول. والسبب في ذلك أنه علم بالطبع أنه سيدير جريدة لحزب كادحين لا منعم يجري رزقها عليها أو سوق إعلان تغنيه تكفف الناس. وأصبحت تبعة سمير أن يستولد ما سينفقه على الجريدة من عضوية حزب أكثره غلابة وتنوشهم أشكال من “المقويات” (كما كان يعرف اشتراك الحزب الشيوعي)، بلغت في يوم من الأيام خمسة في المئة من مرتب العضو متى صدق. ويُروى عن هذا الهم المالي للشيوعي أن زميلاً جديداً حضر اجتماع خليته لأول مرة. وسمع من المسؤول السياسي المطالب المالية عليه من مقوي وتبرع «للميدان» واشتراك فيها وهكذا. واستهول الزميل هذه التكلفة العالية لعضوية الحزب. ولما جاء وقت سؤاله عن اسمه الحركي. قال: “اسمي الحركي مرهج” وكان مرهج هو واحد من أشبع تجار الخرطوم. والحال على ما هو عليه لم يكن بوسع سمير أن يدير المجلة من وراء حجاب بل على مسمع ومرأى من القراء يطلعهم على صحة الجريدة أول بأول. ورتب لذلك باباً اسمه “من الميدان” يدير به مهمته الجامعة للتحرير والتمويل. ويظهر اسم الباب على صورة لرجل بجلابية وعمة يقرأ في صحيفة وعلى الخلف منه منزل وشجرة.
كانت صورة سمير لصدور الجريدة أنها عملية ولادة. أي أنها تنبثق من حب خالص وعطاء خصيب. وكان يستبطئ المطبعة، الأم، أن تضع حملها فيما رواه عن صدور عدد خاص لـ«لميدان» كما ننقله في صندوق مصاحب لهذه الكلمة. وبلغ من هذا الاستبطاء حداً أنه ضَرّب في رأسه يوماً الوقت الذي ستأخذه مطابع السودان للفراغ من طباعة عدد واحد من أعداد جريدة «البرافدا» السوفيتية. فقد قال إن رئيس التحرير، بابكر محمد علي، قد أطلعه مرة على التوزيع اليومي للبرافدا. وهال سمير الرقم وخلص من تضريباته إلى أن مطابع السودان الدائخة ستأخذ ستة أعوام كاملة لطباعة ما توزعه برافدا في اليوم وقال: “كم نحن متأخرون.”
وكان “من الميدان” باب تربوي للشيوعيين. ولم تكن التربية شاغلاً حزبياً مخصوصاً إلا ما تسرب من باب السياسة تسريباً. ومن دلائل ذلك أن مصير كتاب تربوي مثل “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير” الذي كتبه أستاذنا عبد الخالق محجوب ما يزال بعيداً عن تهذيب الشيوعيين برغم صدوره في الستينات الأولى. فلم يكن بوسع سمير أو الجريدة أن تخفي مآزقها المالية من القراء المناضلين كما يفعل الكادر السياسي الزاهد تحت الأرض. وهي زهادة بمثابة الاستشهاد المؤجل جعلت لهم هالة قداسة عند الرفاق سلطتهم على الرقاب إلا من استحب الخير والتواضع. غير أن الهالة لا تبقي إلا إلى حين يضجر منها الرفيق الزاهد ويهجر الحزب.
وكان سمير تربوياً عالي الصوت. كان يضيق بتقاعس موزعي الجريدة من الشيوعيين. وغضب مرة قائلاً في الباب: “ليس هناك جريدة في الكرة الأرضية تعامل بواسطة موزعيها كما تعامل «الميدان». “وأتبع ذلك بقائمة مدن لم تسدد ديونها للجريدة مثل طابت 12 جنيه وجوبا 4 جنيهات والنهود 14 جنيه. واقترح أن تمنح لمدني وبورتسودان جائزة “الإهمال الذهبية” لمبالغتهما في تراكم الاشتراكات والمتأخرات المزمنة. وأنذر مدني بقطع الجريدة من العدد القادم إن لم تسدد ما عليها. وأرسل تحية إلى عطبرة وواو وشندي وملكال لاهتمامهم بـ«الميدان». وألزم بورتسودان لاحقاً بأن يدفع مشتركو الجريدة مقدماً. وبالفعل نشر مكتب «الميدان» بالثغر إعلاناً بالمعني. ونتطرق لجوانب أخرى من بركة سمير على جريدة الميدان في كلمة أخيرة قادمة.
صندوق: الخميس الماضي (بقلم سمير جرجس)
كانت الولادة متعثرة ولكن خرج الجنين قوياً جميلاً
ضحكات عصبية ونوم فوق التروس
1850 رقم لم تصله مدينة إقليمية من قبل في تاريخ الصحافة السودانية
مع بداية الليل مساء الأربعاء الماضي توكلنا على الواحد القهار نحن الأربعة عبد الحميد ونقد وسليمان علي وأخوكم (المدير)، اللي هو أنا، وسرنا نحو المنطقة الصناعية نحمل الكميات التي طبعت من عدد الميدان الخاص لنذهب بها إلى مطبعة مصر حيث يطبع الغلاف ويدبس ويجلد العدد ويعد للإرسال للأقاليم. هناك في مطبعة مصر كانت ولادة العدد جد متعسرة. عديد من الماكينات تعمل وتصرخ ولكن الكميات المطلوبة تخرج ببطء قاتل. وأخونا عبد الحميد كان منتشياً بعض الشيء فغافلنا ورقد على أحد الماكينات فوق التروس وأخذ تعسيلة ظبط وكان كالفقير الهندي الذي يأخذ راحته عندما ينام فوق المسامير.
استمر العمل أكثر من عشرين ساعة دون توقف على الرغم من ذلك لم نستطع أن نلحق ببعض القاطرات والطائرات والمرجو من الأصدقاء تقدير الظروف.
وفي مساء الخميس خرجنا من مطبعة مصر نحمل عدد «الميدان» (وشحنّاه) في عربة وجلست بجنبه أتأمله فخلقت في ذاكرتي صورة أمي عندما توشك أن تلد لنا أخاً صغيراً، وكيف كانت تظل تصرخ ولكن ما أن يخرج أخي الصغير إلى الدنيا حتى تضع يدها عليه وتبتسم. هكذا كان حالنا.
كلمة أخيرة من عطبرة المجيدة. تعلمون كم نسخة وزعت من العدد: 1850 نسخة وهذا رقم لم تصله جريدة سودانية في أي بلد من بلاد الأقاليم من قبل.