*منصور خالد: أهدى طُرق الرجل في البحث هي التي يتَجنّبُ (1-3) عبد الله علي إبراهيم*

 

الفصل الحادي والاربعون من كتابي “. . . ومنصور خالد”

حاولت عبر عقود الإنقاذ الثلاثة مهاداة المعارضة أن تكف عن الخوض في خطاب الهامش والمركز بالغرض المعارض (أو الجهل لا فرق). فالإنقاذ ستسقط، ولكنهم سيرثون فتنة الأعراق التي استثاروها. وتجد هنا فصلاً من كتابي “. . . ومنصور خالد” أخذت فيه عليه مجازفته بربط عمل جماعات من شعب جبال النوبة “الألتة” (نقل “عيفونة” المراحيض) إلى مستقرها برق الشماليين التاريخي بينما نهضت الدلائل على فساد هذه الفكرة. والغريبة أنه وقف على مرجع درس الظاهرة بغير حاجة إلى ربطها بالرق الشمالي فأضرب عنه وأخذ منه العفو. وهذا عتو.
ولذا قلت إن كان لهذه الحرب من ثقافة من ورائها فهي من عوس معارضة وقع طلاق البينونة بينها وبين الفكر. ولما جاءت للحكم تفجر ذلك العوس في وجهها وقصم ظهرها.
إلى الفصل:
نسبني البعض للاشتطاط وذلك حين اشتبهت في تقلُّد منصور درجة الدكتوراه التي ظلت تسبق اسمه منذ ذاع صيته في السودان بمقالات بعد ثورة أكتوبر جمعها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979). بل تجرَّأ أحدهم وقال إن الرجل يزين هذه الدرجة العلمية ونقصها لا يشينه. وهذا تبذُّل ذهب بالإحسان في بلدنا جملة واحدة. ولم نكن لنشغل أنفسنا بمؤهَّل منصور لو أنه كتب ما يعنُّ له مثل سائر الكاتبين. ولكنه كاتب ذو عزة مهنية علمية سامقة كما رأينا. فقد نعى على فكرنا الاختباط نسدجُّ به في الباطل لمفارقته المنهج التوثيقي. وهو عنده المنهج الأشد “لزوماً عند تناولنا القضايا الاجتماعية المعقَّدة التي لا ينبغي أن يبتني الناسُ أحكامهم فيها على افتراضات وساوس، وشوائع ملهوجة، وثوابت مزعومة “جنوب السودان في المخيلة العربية، صفحة 7”. ومثل هذا كثير جداً عند الرجل. فلا يستغربن محاكمته بما قال إلّا أرعن.
أقف بالقارئ بهذا الفصل من كتابنا عن منصور ليرى بنفسه عوار منهج منصور العِلمي. وأفدح مظهر في سوأة الرجل ككاتب أنه يـُطفِّف في مراجع بحثه. فلا تَرُدُّه عن رأي اتفق له حُجَّة أو كشف فكري. فلم يُخْلَق بعد المرجع الذي يتواضع عنده منصور. فيعيد النظر عن ذائعة وافقت هواه أو معتقده. ومتى بطُل مفعول المرجع أصبح البحث لعبةً غرضها الأسمى طلب الكاتب الشوكة بها لنفسه، كما قال أحدهم. وهذا العتوُّ الفكري مستغرب من مثل منصور الذي سلق فكرنا بلسان حديد لأننا نتشاحَّ في الأمور “بلا كتاب منير يضئ طريق البحث والاستقصاء” “جنوب السودان في المخيلة العربية، صفحة 6″. وستجد منصور يَزورُ الكتاب المنير فيزوَّر عنه مستعصماً بـ”افتراضات وساوس، وشوائع ملهوجة، وثوابت مزعومة”.
وأضربُ على استعلاء منصور على مصدره مثلاً. فقد ظل يروج لفكرة أن عمل أبناء جبال النوبة في “الألته” (وهي نقل قاذورة مراحيض الجرادل) من آثار الرق في السودان. وهو رق مارسه عرب الشمال المسلمون على النوبة. ومن ذيوله إيكال هذه الخدمة المهينة لهم. وعرض منصور لهذه المسألة مرَّتين على الأقل في كتبه السائرة. مرة في “جنوب السودان في المخيلة العربية” (2000) وثانية في “السودان: أهوال الحرب” (2003). وكان بمتناول منصور كتاب منير (زكاه هو نفسه بعبارات قوية) لربما لو قرأه حقاً لتحفَّظ في نظرته للنوبة والألته، ولرتـًّبها بصورة أكثر نفاذاً ونفعاً لتاريخنا الاجتماعي. زعم منصور في كتابه عن المخيلة العربية (صفحة 427) أن خدمة الألته المسيئة وقعت للنوبة لأن الرق الشمالي قد أحلهم مرتبة اجتماعية دنيا. فمن رأيه أن الرق في السودان خلق تراتبية اجتماعية قطعت لكل قبيل من السودانيين ما يصلح له من شغل بحُكم الأصل والفصل. وجاء منصور في هذا السياق بما يذكِّر المرء بنظم الطوائف الهندية من براهما ومنبوذين وغيرهما. ففي السودان أيضاً، حسب قول منصور، طوائف محتـَقَرة تمارس مهناً وضيعة. ومن أولئك النوبة التي اختصَّها ذلك التراتب السوداني طائفياً بنقل حاويات البراز البشري من المراحيض العامة والخاصة على الرؤوس والأكتاف. وهي خدمة، في عقيدة منصور، لم يزاولها أبناء جبال النوبة مياومة في الخرطوم وضواحيها في فترة الاستعمار فحسب، بل وأيضاً طوال فترات الحكم الوطني حتى عام 1969 حين ألغي نظام انقلاب مايو 1969 هذه الممارسة بعد عقدين من الاستقلال. وقد أسعد ذلك المحامي معتصم التقلاوي فكتب كلمة تستدرّ الدموع فرحاً بالموقف. ومعتصم كان من بين صفوة النوبة الذين أنشأوا تنظيماً في 1967 باسم الزنوج الأحرار. ولم يسُر هذا أهل الشمال ف “استنفج” غضبهم، في قول منصور، أن تنشيء النوبة عصبة سياسية وهم قوم بور.
واستعان منصور بالنظرة المقارنة لبيان رأيه. فنظر إلى موريتانيا التي أصبحت صنواً للسودان في مادة الرّقّ وذيوله. فقارن منصور وضع البلدين من جهة التراتبية الاجتماعية. واستبعد أن يواجه السودان ثورة تحريرية دموية من “عبيده” السابقين كما وقع بين بيضان موريتانيا وسودانها. فالسودان ” كان أسعد حالاً لأسباب عددا. منها أن الاستعمار حارب الرق واستوعب المبرِّزين من أبناء الزنوج المنبتين (detribalized كما يقال)، أي مَنْ لم يربطهم بالريف والقبائل رباط؛ في مواقع مميزة كالجيش، فلعبوا دوراً مميزاً في المجتمع برغم جحود شمالي منكر. ومما لطّف من هذه الثورة أيضاً لجوء الجنوبيين للعنف منذ بواكير الاستقلال.
وفي كتابه (السودان: أهوال الحرب – 2003) عاد إلى موضوع الألته في سياق عرضه لنشأة جماعة الكتلة السوداء في 1942. وقد انحدر أسلاف مُنشئي هذا التنظيم من جبال النوبة والجنوب ودارفور بقيادة ضباط معاشيين منهم ومهنيين. وكانت خدمة النوبة في الألته من ضمن ما استفزهم لطلب المساواة بين الأعراق في البلد. وقال منصور أن أداء الألته كان محصوراً على أبناء جبال النوبة: “وكان قَدَرُ أبناء جبال النوبة أن يحملوا تلك القاذورات على رؤوسهم”. وزاد بأن شعب الدينكا شابه الشماليين في تكليف الجماعة المستضعفة بالمهن المستحقَرة. فقد قصَّروا الحدادة على الفرتيت البانتو ممَّن ظنَّوهم أدنى منزلة. ومع ذلك استقبح الألته وقال إنها الأفظع لتجريدها العامل فيها من آدميته. وقال إنها صنعة جاء بها الإنجليز من الهند وخصوا بها المنبوذين. ولم تُرفَع عنهم إلا باستقلال الهند. ولم يوقف هذه الممارسة المسيئة في السودان إلّا نظام نميري بعد 13 عاماً من الاستقلال.
الشاهد هنا أن منصور قصر عمل الألته على أبناء جبال النوبة كجماعة مستحقَرة لأنها كانت نهباً قديماً للنِّخاسة. ونريد هنا، قبل الخوض في نظرية منصور، عن هذه الخدمة المسيئة نقض عقيدة الرجل في أنّ النوبة وحدهم هم من ابتــُلوا بخدمة الألته من دون السودانيين الآخرين. ومتى ما أثبتنا أن الألته شملت النوبة وغير النوبة أصبح ميسوراً بالطبع الطعن في نظرية منصور عن الاستحقار والرق والمهن. فقد جاءت الدراسات المستجَدَّة بما وسّع نطاق من خدموا الألته فوضح شمولها غير النوبة.
ونواصلً

مقالات ذات صلة