تناقلت الاخبار ان لقاء سينعقد بين البرهان وحميدتي تنظمه الايقاد ربما في الثالث من يناير القادم. وأعربت دوائر غربية واقليمية عن تعويلها على هذا اللقاء لإنهاء الحرب الدائرة في السودان وإعادة الأمن والاستقرار الى ربوعه. فبالنسبة لهذه الدوائر المهم هو “لقاء الجنرالين” بقطع النظر عن اجندة ذلك اللقاء. وبات معلوما أن أجندة اللقاء، ان كانت له أجندة، لا تتضمن تنفيذ ما أقر في إعلان جدة الذي صدر في ١١ مايو الماضي بشأن انسحاب الدعم السريع من بيوت المواطنين والمستشفيات ومراكز الخدمات المدنية. بل ان الدوائر الغربية صارت “تستسخف” فكرة مطالبة الدعم السريع بالخروج من المنازل. ومن ذلك تصريح لدبلوماسي أوروبي نشرته الإيكونوميست في نوفمبر الماضي قال فيه ان مجرد تقدم الجيش بمثل هذا الطلب في هذا الظرف يعد أمرا “مضحكا”. فما الذي يراد بهذا اللقاء اذن؟ وهل يعني أمره الشعب السوداني في شيئ؟
اذا كان لمؤرخ ان يكتب في زمان قادم عن الاشهر التسعة الماضية، فانه سيقول انها الاشهر التي احتاجها الدعم السريع ليتجاوز فشله في الاستيلاء على السلطة في وثبة قصيرة مباغتة في الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣. وحيث انه لم تكن للدعم السريع خطة بديلة ينفذها حال فشل انقلابه على الجيش، فإنه بعد انهيار ذلك الانقلاب عكف على التهيئة لتلك الخطة البديلة معتمدا اقذر الاسلحة لكسب الوقت وتوفير الغطاء المناسب لكسر الارادة السودانية ريثما تعد تلك الخطة. ابتداء احتاج الدعم السريع لإطلاق شعارات جديدة، غير التي أشعل الحرب من أجلها، تكون جاذبة للمقاتلين المستهدفين. فبعد أن كان هدفه المعلن هو تحقيق التحول المدني الديمقراطي من خلال فرض الاتفاق الاطاري، تبنى مشروعا ينادي بتدمير دولة ٥٦ واقامة دولة العطاوة مكانها. والعطاوة من ذلك براء إلا قلة سفهت نفسها، وتقاصرت همتها، وتصاغرت منساقة وراء هذا الكيد العنصري العبيط. وبسبب ان القوة الطليعية النظامية للدعم السريع قد انهارت مع انهيار الانقلاب ففقدت مقارها ووسائل تواصلها، كون الدعم السريع قوة عسكرية رديفة ممن استهوتهم هذه الدعاية العرقية فتنادوا من اطراف البلاد ومن وراء الحدود، هذا إضافة الى من اجتذبتهم الغنائم من ساكني الاحياء الطرفية. ومثلما اطلق الدعم السريع شعارا جديدا، وجلب قوات رديفة، فانه اعتمد تكتيكا عسكريا تمثل في استهداف المدنيين الذين هم الغاية الأساسية لجنده الجديد ممن يستحلون السلب والنهب والاغتصاب. تحت هذا الشعار الكذوب، وعلى أيدي هؤلاء “الأشاوس”، وتنفيذا لهذا التكتيك الغادر شهد السودان أفظع المجازر- خاصة في الجنينة، وأسوأ نماذج التطهير العرقي، وأقبح حملات الاغتصاب الجماعي، وأكثر عمليات التفتيش صلفا وعدوانية.
ضمن هذا السياق تم احتلال منازل المواطنين في الخرطوم وأجلي عنها ساكنيها. فنهب ما نهب، ودمر ما دمر، واحتل ما تم احتلاله. وعلى الرغم من عظم الفظائع والآثام التي باء بها الدعم السريع خلال هذه الحرب، فانه ما من انتهاك ارتكبه يفوق في موازين القانون الدولي احتلاله بيوت المدنيين. ذلك انه بهذا الفعل قد خالف مبدأ التمييز Principle of Distinction الذي هو المبدأ الأساسي في القانون الدولي الإنساني . اذ بموجب هذا المبدأ يتعين على طرفي الحرب أن يميزا أولا بين ما هو مدني وماهو عسكري كخطوة تمهيدية ضرورية لكفالة حصانة مطلقة للمدنيين من الأعمال الحربية. ولأهمية هذا المبدأ فقد خُصصت لحمايته اتفاقية بأكملها هي اتفاقية جنيف الرابعة. وليس على وجه هذه البسيطة، خلا القرآن والانجيل، ما يحمل درجة القداسة التي جعلت لهذه الاتفاقية. رغم ذلك فإن الغرب ودبلوماسييه يتنصلون من هذا المبدأ المحوري حين تتعارض ضرورات احترامه مع مصالحهم فيلقونه وراءهم ظهريا، بل يسخرون من التمسك به.
خلال هذه المدة التي أُطلق فيها العنان لعملية الغطاء أعلاه، والتي صارت فيها بيوت المواطنين هدفا مباشرا للعمليات العسكرية ونهبا للرعاع، كان العمل يجري وراء الكواليس على قدم وساق لانجاز الخطة “ب” البديلة. فتم انشاء مطار أم جرس من الالف الى الياء. ثم بدأت الصواريخ المضادة للطائرات والدروع تصل الى دارفور. ذلك رغم الحظر الذي فرضته الامم المتحدة لمنع دخول السلاح لذلك الاقليم منذ العام 2004. ثم وصلت المسيرات الحديثة التي زحمت الافاق في مدننا المحتلة وفوق منازلنا المغتصبة وتكاثفت هجماتها على قواعد الجيش ومعسكراته. ومثلما مكن ذلك من استكمال وصول السلاح والعتاد الجديد تحت غلالة الدخان الكثيف الذي أثارته الفوضى العارمة، فانه اتاح لحميدتي، امير البلاد المفدى، الواقت اللازم ليستجمع قسطا من قواه ويخرج للعلن. وهكذا يكتمل ميلاد الخطة “ب”. فهاهو الزمان يستدير كهيئته يوم هاجم الدعم السريع بيت الضيافة في ١٥ أبريل. وها هو ذا حميدتي يأمل من جديد ان يفاوض البرهان، وجها لوجه، على خروج آمن للبرهان من السلطة بعد قبوله باحلال الدعم السريع محل الجيش وفرض الاتفاق الاطاري على الشعب السوداني. فالخطة “ب” هي خطة بديلة لخطة فشلت، لكنها خطة لتحقيق ذات الهدف الذي فشلت الخطة الأولى في تحقيقه. وما اجتماع الجنرالين الا ضربة البداية لإدخال الخطة “ب” حيز التنفيذ لإنجاز ذلك الهدف بحذافيره. او هكذا يريد بها من خططوا لها.
غير انه ليس هناك مكان في الخطة “ب” للخروج من منازلنا. فالانتقال من مرحلة الغطاء وغلالة الدخان الى المرحلة الجديدة ينبغي ان يتم دون تراجع عن المكاسب التي تحققت للدعم السريع في المرحلة الماضية، وان كانت مكاسب لا تقرها شرعة سماوية أو أرضية وتحققت بوسائل يندي لها الجبين. وفي ذلك يستفيد الدعم السريع من انعدام الاهتمام الدولي بمسألة احتلال المنازل اذ لا أحد يضغط عليه للخروج منها. وهكذا فإن الملايين داخل البلاد الذين هم في حالة فرار دائم يبحثون عن الأمن في المدن البعيدة والقرى النائية، بتكلفة باهظة لا يقدرون عليها، ليسوا ممن يعنون حميدتي او يدخلون اجندة اجتماعه. كما ان الملايين خارج البلاد ممن يقبعون في شقق صغيرة وحواري خلفية في مدن لا ترحم، وهم يعانون الامرين بردا وجوعا، لم يدخلوا خطته بعد. هذا هو تاريخ الأشهر الماضية مما سيكتبه المؤرخون. اما تاريخ ما هو قادم فهو ما يخطه السودانيون بما يفعلونه اليوم وغدا ان هم أرادوا.
فهذا الشعب لا يزال قادرا على ان يقول: اذا كان السلام سيأتي والدعم السريع يحتل المنازل ويقطع الطرقات وليس لنا من سبيل للرجوع لديارنا، فهذا سلام لا يعنينا في قليل أو كثير. هذا الشعب قادر على ان يقول: اذا كان هدف لقاء الجنرالين هو ان يؤمن للدعم السريع وضعا يشبه وضع حزب الله في لبنان – فيكون جيشا وحزبا، ويكون شعبا ودولة، ويكون شريكا في الحكم القومي ومستفردا بالحكم الإقليمي (في دارفور وكردفان) – ثم يتعطف بعدها ان هو رغب بإعادة المواطنين لمنازلهم على نحو انتقائي وبعد تقديم فروض الولاء والطاعة، فذلك ما لا يكون. وهذا الشعب قادر على ان يقول: اذا كان هدف لقاء الجنرالين ان يعيد للدعم السريع وضعه السابق فيضحي من جهة هو المسيطر على الخزانة العامة واللجنة الاقتصادية، ومن الجهة الاخرى هو المالك للبنوك الخاصة ومناجم الذهب، فيقرر ان يؤهل المستشفيات وشبكات المياه والكهرباء اذا شاء، او يقرر تركها خاوية على عروشها اذا شاء، فهو لقاء لا حاجة لنا فيه. وهذا الشعب قادر على ان يقول: اذا كان المأمول هو ان يعود حميدتي وجنده وازلامه للحكم آمنين من أي مساءلة ودون أدنى عقاب، فباطن الأرض خير من ظهرها. واذا كانت ذروة سنام هذا الامر وغاية المرام فيه هي ارجاع عملاء تلك الدويلة للسودان فيأتون في ركاب حميدتي وتحت صولجانه ليتابعوا نجاح ما بدأ في أم جرس وليتمكنوا من جديد من موارد البلاد وموقعها الجغرافي يوظفونها خدمة لمصالحهم وهم لا يبالون ماذا أصاب الشعب السوداني وماذا أخطأه، فذلك آخر ما نعيره إلتفاتة.
ان وسيلة هذا الشعب لرفض هذه المساومة الخاسرة ولابطال هذا الكيد الكبير هي مقاطعة اجتماع الجنرالين المعلن في يناير. فنكف عن متابعة ذلك الاجتماع، ولا نتسقط اخباره، او نعلق عليها، ولا نتشارك صوره وفيديوهاته. فاذا شذ كاتب او قروب عن ذلك قاطعنا ذلك الكاتب وهذا القروب. نفعل مثل ذلك في كل الوسائط على تنوعها. فهذا اجتماع لا يعنينا في كثير او قليل ما دام موضوعه ليس خروج الدعم السريع من منازلنا، وانما هو عودة حميدتي عبر هذه الخطة البديلة لاستئناف ذات المشروع الذي انهار يوم ١٥ أبريل. بل هو اجتماع يسيئ الينا ما دام البند الاول فيه، بحكم الامر الواقع، هو العفو عن تمرد حميدتي والاعتراف له بدور قيادي والتجاوز عن ما أرتكبه والتراجع عن قرار حل الدعم السريع. وهو اجتماع يستهين بحرماتنا ودمائنا وأعراضنا ما دام هدفه الظاهر هو ادماج الدعم السريع بعد كل الذي فعل ضمن القوات النظامية، وربما ادماج الجيش في الدعم السريع.
ان هذه المقاطعة ضرب من ضروب المقاومة الشعبية التي تنتظم المدن والبوادي حاليا ووجه من وجوهها. والتاريخ حافل بالمقاطعات السلمية التي كانت أشد مضاء من الحسام المهند. ومقاطعة هذا الاجتماع وجدانيا هي وسيلتنا للاحتفاظ بكرامتنا بعد ان فقدنا كل شيئ غيرها. بل ان هذه المقاطعة هي البداية الصحيحة للعودة لمنازلنا ولو كانت انقاضا ولشوارعنا ولو كانت خرابا. وهي البداية الصحيحة لأن يكون لنا وطن ولو بعد حين.
٣١ ديسمبر ٢٠٢٣