*حسين خوجلي يكتب: أين تسهر هذا المساء*

ولأن صحيفة ألوان الالكترونية على الطريق فترقبوها أو امسكوا الذهب ما الخشب ما دام الذهب والخشب أصبحا سيان بين يدي لصوص النكبة. ونحن نستعد لاصدارها من المنفى ومكتب صغير ببورتسودان فقد أصبحت استدعي من الذاكرة ذلك التاريخ النابض الطويل الذي بدأ من ٨٤ في مكتب صغير بقلب الخرطوم وتنامى بحمد الله حتى صار صحيفتين وقناة واذاعة، والآف الصفحات والمقالات المقروءة والمشاهدة والمسموعة. رد الله غربة المؤسسات وغربة ملايين الأحباب الذين عرفونا في مجال الحرف والصوت والصورة، وما أعذب وأرفع الصداقة والمحبة عندما تكون في الله والوطن والثقافة.
ومن غير كلمة ألوان وبقايا مداد وأسرار وأخبار وحكايات، ومئات الصحفيين والأعمدة والحوارات، يظل باب الاختيارات من الأبواب الحبيبة إلى نفسي بأخيرة ألوان. وقد أطلقنا على تلك المساحة مسمى ( أين تسهر هذا المساء) وهي تحتوي على فكرة وعبارة مسافرة وأحلى الكلام، وحكاية، وعسل سوداني، ومسدار ووخزة.
وقد ابتدرت رعايتها في شهورها الأولى ولما تكاثفت الأعباء وزعتها على مجموعة من الصحفيين النابهين المهتمين بأمر التوثيق الأدبي، وكان أشهرهم الدكتور الشاعر خالد فتح الرحمن الذي آثر السفارة والأسفار على قيد القرطاس والأحبار، وإن كان الرجل ما زال يتحفنا الفينة بعد الأخرى بقصائده الجياد القصائد التي حين يطلقها ينطلق خلفها صوت احمد ابن الحسين المتنبي :
وَعِندي لَكَ الشُرُدُ السائِراتُ
لا يَختَصِصنَ مِنَ الأَرضِ دارا
قَوافٍ إِذا سِرنَ عَن مِقوَلي
وَثَبنَ الجِبالَ وَخُضنَ البِحارا
وَلي فيكَ ما لَم يَقُل قائِلٌ
وَما لَم يَسِر قَمَرٌ حَيثُ سارا
فَلَو خُلِقَ الناسُ مِن دَهرِهِم
لَكانوا الظَلامَ وَكُنتَ النَهارا

وحين غاب الرجل في عواصمه العريقة ما بين حواضر العرب والفرنجة، أعانني من بعده الأخ الإعلامي عمر سعيد فالرجل ما زال من الحواريين الكبار في مجال التوثيق الاعلامي. وما زال الناس يذكرون برنامجه الذكي المشاهد “شعر وموسيقى” على قناة أمدرمان الفضائية. أما آخر النوارس الذين كانوا يسدون الثغرة واستعين بهم بعد رهق يوم طويل في ادارة الصحيفة والإذاعة والقناة الاعلامي والصحفي الشاب يوسف محمد الحسن فهو صاحب مستودع ثري من الأشعار الفصيحة والعامية والأقوال والقصائد واللقطات النادرة، ولم نستمتع بصحبته طويلاً فقد فر بجلده من المهنة الصعبة إلى العملة الصعبة، فهو رجل أعمال يشهد له الجميع بالنجاحات الماثلة والصداقات القديمة لرفاق الحرف.
ولاستعادة تلك الأيام وذلك الفرح الآفل في ليالي الخرطوم الحزينات أطل في خاطري هذا الباب الحبيب الدي أهديه لك عزيزي القارئ باطلالة اسمه الشفيف “أين تسهر هذا المساء” فالسهر في السودان قديماً لا يشابه أرق هذه الأيام.

1. آية للحفظ والتفسير قال تعالى (وَلَقَد صَرَّفنا فى هٰذَا القُرءانِ لِلنّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكانَ الإِنسٰنُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلًا)

2. حكمة والله وحكاية:
كان استاذنا الدكتور بابكر دشين رحمه الله معلماً للغة العربية والأدب بأمدرمان الأهلية الثانوية، كان شاعراً وأديبا ولغوياً وتلميذاً وصديقا للراحل البروفيسور عبد الله الطيب. وبين يديه تعلمنا الكثير خاصة حصته الأسبوعية التي كان يسميها وادي عبقر اذ يطلب من كل واحد منا اختيار مادة نقرأها حفظاً ونشرحها. وقد تعلم الطلاب من هذه الحصة موهبة التنقيب عن الجميل في كتب التراث، وكان يختار في كل حصة موضوعاً تارة في الحكمة والحكماء وأخرى في الحب والمحبين لأهل الذوق والرقائق والحكم والحاكمية والحكام والمحكومين والحق وأهل الحق إلى أن تنتهي كل القيم المبتدئة بحرف الحاء. ومن اختياراتي التي بقيت في الذاكرة حفظاً في الحكم والحاكمية والحكام والمحكومين حكاية سيدنا عبدالله بن الزبير أمير المؤمنين وسيدنا معاوية بن ابي سفيان الصحابي وكاتب الوحي وأمير المؤمنين الذي ملأ الدنيا بفتوحاته، التي ادخلت ملايين البشر في دين الله أفواجا. قال الشاهد كان لعبد الله بن الزبير- رضي الله عنه-مزرعة في المدينة مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما-خليفة المسلمين في دمشق..
وفي ذات يوم دخل عمال مزرعة معاوية إلى مزرعة ابن الزبير، وقد تكرر منهم ذلك في أيام سابقة؛ فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق وقد كان بينهما خلاف قائلاً في كتابه:
من عبدالله ابن الزبير إلى معاوية (ابن هند آكلة الأكباد ) أما بعد..
فإن عمالك دخلوا إلى مزرعتي، فمرهم بالخروج منها، أو فوالذي لا إله إلا هو ليكونن لي معك شأن!
فوصلت الرسالة الغاضبة لمعاوية، وكان من أحلم الناس، فقرأها.. ثم قال لابنه يزيد: ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يهددني ؟
فقال له ابنه يزيد: أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه..
فقال معاوية:”بل خيرٌ من ذلك زكاةً وأقربَ رُحماً” فكتب رسالة إلى عبدالله بن الزبير يقول فيها:
من معاوية بن أبي سفيان إلى عبدالله بن الزبير ( ابن أسماء ذات النطاقين ) أما بعد..
فوالله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلّمتها إليك
ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك،فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمّالي إلى عمّالك؛
فإن جنّة الله عرضها السموات والأرض!
فلمّا قرأ ابن الزبير الرسالة بكى حتى بلّ لحيته بالدموع، وسافر إلى معاوية في دمشق وقبّل رأسه، وقال له: لا أعدمك الله حُلماً أحلّك في قريش هذا المحل.
ولأن الدين النصيحة فإني أهديها لرئيسنا الفريق الركن عبد الفتاح البرهان ولشيخنا الدكتور عبد الحي يوسف (والمعنى واضح)

3. وكيف أقبل أسباب الهوان ولي
آباء صدق من الغر الميامين
النازلين على حكم العلا أبداً
من زينوا الكون منهم أى تزيين
من كل أروع فى أكتاده لبد
كالليث والليث لا يغضى على هون
وقد سلا القلب عن سلمى وجارتها
وربما كنت أدعوه فيعصينى
ما عذر مثلى فى استسلامه لهوى
يا حالة النقص ما بى حاجة بينى
ما أنسي لا أنسى إذ جاءت تعاتبنى
فتانة اللحظ ذات الحاجب النون
يا بنت عشرين والأيام مقبلة
ماذا تريدين من موعود خمسين؟
وعندما يستبد الطرب بالراحل الدكتور الشاعر الحبر يوسف نور الدائم رحمه الله وكان يحفظ ديوان العباسي “صم” وهو من أهله وعشيرته، كان يقول بصوتٍ داوِ : والله إن العباسي لأشعر من شوقي وحافظ والجواهري والرصافي والأخطل الصغير وبدوي الجبل، بيد أن الاعلام والنشر والصيت قد ظلم أهل السودان وما زال يفعل.

4. عسل سوداني:
قال مذيع المنصة وآخر ورقة في ملتقى مواكب العائدين هي ورقة ممثل مدينة كسلا تقدم باطلالته الزاهدة وقميصه (نص الكم) الشهير وحذاؤه الصندل المعهود، لا تزينه جاكيتة ولا عباءة وابتدر الأداء بصوته الرخيم المهاجر. أما ورقتي أنا فهي قصيرة المدى بعيدة الأغوار فانتبه الجميع وتوالت المفردات العصافير
غـايـب الـسنين الـليله
مالو غنا العصافير غلّبو
طراهو زولا كان ولوف
كم رضا خاطرو وطيّبو
سمّع قليبو كـلام حـنين
هـدهد مـشاعرو ودوبـو
الـناس سعيدم في الـحياة
لا ضاق فراق لا جربو
وانا حالى فى بعد الوطن
دفّعنى ضي العين تمن
بكى الشاعر في حرقة وبكت القاعة برجالها ونسائها فاضطرت بنات العلاقات العامة بتوزيع صناديق المناديل على الجميع خوفا من أن تغرق القاعة في الدموع.

5. مسدار:
قول للأبيض حاجة ما تخشاها
حمّلتك أمانةً في الضمير منشاها
وقت السنة وقعت وانكوت في حشاها
منو الغير أبوك درجها ومشاها
عكير الدامر حين زار ابن المهدي السيد عبد الرحمن الأبيض قبيل الاستقلال.

6. وخزة:
إن لم يتخلى السودانيون عن عبارة التواكل (ضربني الحائط) إلى عبارة الاعتراف (ضربتُ الحائط) فإن الوعي بالنقد الذاتي والتغيير لن يبدأ مسيرة التحرير والتعمير.
حسين خوجلي

مقالات ذات صلة