*بمناسبة عيد الاستقلال المجيد*
*في الأسس المعرفية لتشكيك بعض متعلمي الأفندية في جدوى احتفاظ السودان بوحدة أراضيه وشعبه*
*محمد جلال أحمد هاشم*
كمبالا – الأول من يناير 2024م
بكل أسف تتعالى بين الحين والآخر دعوات لتفكيك السودان، انطلاقا من قناعة هؤلاء الدعاة غير الوطنيين بجدوى احتفاظ السودان بوحدة أراضيه و حدة شعبه. ما يؤسف له أن هؤلاء لا يملكون أي رؤية فيها شوف عميق وقادر على سبر الأغوار المعرفية للأسس التي تتوفر في السودان، لا ليكون دولة وطنية وفق الشروط الويستفالية فحسب، بل ليكون منطلقا ونموذجا لوحدة الدول الأفريقية في شكل وحدة دول مستقلة، ذلك تحقيقا للمشروع الآفروعمومي الذي يدتؤمن به غالبية الشعوب الأفريقية، بخلاف بعض متعلميها المنتمين لطبقة أفندية الاستعمار بيمينها ويسارها، هذي الطبقة مقطوعة الطارئ.
***
فمن ذلك، مثلا، عدم اعتبارهم بالتاريخ الماثل للعيان والموثق بخصوص تشكل وتبلور مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة. هذا مقابل التحديات التي واجهتها، ولا تزال تواجهها. وهنا أخص بالتحديد انتكاسة مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة من كونها عَلمانية لتصبح ظينية، ذلك بما يدفعها إلى التفكك والتشظي كحكم ضرورة.
***
دعونا ننظر إلى تجربة إيطاليا وكيف تحاذبتها رياح نموذج الدولة الويستفالية العاتية والمتصاعدة في مواجهة تمترس الدولة الدينية ممثلة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة The Holy Roman Empire. فبعد تفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عام 1818م، إثر تشكل العديد من الدول ذات الأساس الويستفالي The Westphalian based Nation Statehood، وجدت إيطاليا نفسها قد وقعت في شر الدولة الدينية ممثلة فيما تبقى من تلك الإمبراطورية التي انحصرت داخل حدود إيطاليا نفسها. في سبيل الانعتاق من ربقة تلك الدولة الدينية، وبموجب ذات الديناميكيات وذات الأسس الإثنية الضاربة في القدم. فماذا كانت النتيجة؟ ظرفيا، تشظت إيطاليا لما يقرب (أو يزيد) من 15 دويلة إماراتية صغيرة خلال فترة تقرب من قرن كامل، إذ بدأت ثم ظلت فيه كل دويلة إماراتية تعلن عن انعتاقها من ربقة الدولة الدينية الآيلة للزوال وقتها. وبالفعل، ما أن انعتقت كل دويلة إيطالية على حدة بهذه الطريقة التجزيئية (بالقطاعي)، حتى عادت جميعها مرة أخرى إلى الاتحاد، التقاءً منها جميعا على وحدة الثقافة الوطنية الإيطالية التي لم تتصف بالتناغم فحسب، بل اتصفت مع ذلك بالتباين والاختلاف.
ولكن إيطاليا سريعا ما انتكست بُعيد الحرب العالمية الأولى، ذلك عندما فارقت مرافئ الثقافة الوطنية التعددية، ذلك بتورطها في الأيديولوجيا بصعود الفاشيستية وانحسار نظامية الدولة shrinking of the order of state وما نجم عنه من استشراء الجريمة المنظمة (المافيا) واشتباكها الظرفي مع السياسة حتى استحقت إيطاليا لقب “رجل أوروبا المريض” خلال عقدي منتصف القرن العشرين. وقد تأخر انضمام إيطاليا للاتحاد الأوروبي لخمس سنوات بعد تقديمها لطلب الانضمام، ببساطة لأنها كانت لا تزال تعتلق بها بعض شوائب وتمظهرات انحسار نظامية الدولة، ممثلةً في عدم تقيد الإيطاليين بقوانين المرور وإضاءات إشارات المرور، فتخيلوا!
هذا الاستعراض يعطينا صورة للديناميكيات المعقدة التي تكتنف عملية بناء وتشكل الأمة Nation Building and Formation، ذلك برغم توافر كل العوامل والشروط المطلوبة لهذا البناء والتشكل.
***
وأذكر أنني ظللت أناصح إخوتنا الجنوبيين في الحركة الشعبية لتحرير السودان غداة أصبح الانفصال أمراً لا محيص دونه، ذلك بأن يجعلوا من الانفصال نقطة انطلاقة جديدة نحو تحقيق مشروع السودان الجديد العلماني، بطريقة التجزئة (القطاعي)، ترقبا منهم، وتهيؤا لانفصالات أخرى قادمة لا محالة. ولكن كانت رياح الانفصال بوصفه إنجازا ختاميا قائما بنفسه كانت قد ملأت أشرعة إخوتنا الجنوبيين. وكذلك عندما ذهبت للمشاركة التشريفية في المؤتمر العام الاستثنائي للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بكاودا في أكتوبر من عام 2017م، قلت بالنص لدى الفرصة التي أكرموني وشرفوني بها لمخاطبة المؤتمرين، وحول نفس شعار المطالبة بحق تقرير المصير، حال تعسر استعادة الدولة لشرط علمانيتها البنيوية، أن شرحت ما ذكرته أعلاه، حال انتهت بهم الأمور إلى تقرير المصير، ناصحا لهم بالعمل على تحقيق مشروع السودان الجديد بطريقة التجزئة (أي بالقطاعي).
***
بالعودة إلى تلك الدعاوى المشار إليها أعلاه، فهي كما نرى، سطحية للغاية، لأنها تتعامل مع التمظهرات الظرفية الآنية، بوصفها الشرط الحاسم، دون أن يكلف هؤلاء الدعاة غير الوطنيين أنفسهم مشقة بناء مفهومهم النظري للأمة، ودون أن يتجاوزوا التمظهرات الظرفية إلى جوهر الحالة التي يقفون أمامها.
*MJH*
كمبالا – الأول من يناير 2024م