في بلدان الكوارث، لا تأتي المصائب وحدها. تأتي ومعها طوابير من السياسيين، تخرج من باطن الأرض كالنمل بعد المطر، ترفع شعارات ضخمة على أجساد صغيرة، وتزعم أنها تحمل مفاتيح الخلاص. إنهم “أحزاب التوكتوك”، صغار في الرؤية، مرتجفون في المبدأ، متسلقون على كل موجة، مهووسون بالكرسي كمن يرى في المرآة شخصًا آخر ويصدقه.
لو كانت السياسة شجرة، لكانوا نباتات متسلقة لا جذور لها. تنبت أينما وجدت ظلًا من المال أو وعدًا بوزارة. ولو كانت الدولة قاربًا، لكانوا الثقوب التي لا تُرى، لكنها كفيلة بإغراق الجميع. هذه أحزاب لا تنشأ من رحم المعاناة، بل من رحم التسوية، لا تعرف عن الشعب سوى خطاباته، ولا تقرأ تاريخه إلا حين تكتب مذكراتها. تجلس حول الموائد المستديرة بشهية ذئاب، ثم تتحدث عن “العدالة الانتقالية” وكأنها هي التي سُحقت تحت البوت
السياسي في بلادنا لا يصنع التاريخ، بل يتسكع على أطرافه. لا يموت في السجون، بل يشيخ في الفنادق. لا يصمت من أجل الجماهير، بل يصرخ من أجل مقعد. حين قامت الثورة، هرب بعضهم إلى المنفى حتى تهدأ العاصفة، ثم عادوا يطلبون “تمثيل الشباب”، وكأنهم كانوا في الميدان يصنعون الحلم. وحين انهارت الدولة، تسابقوا لتشكيل تحالفات بائسة، تسند فيها الجبال على العيدان، وتهتف فيها الهزيمة باسم الديمقراطية.
نعيش عصرًا سياساته مثل عربات التوكتوك: تصدر ضجيجًا أكثر مما تمضي، تهتز في كل الاتجاهات، ولا تعرف طريقًا واضحًا. أحزاب بحجم المايكرفون وطموح بحجم الكارثة. زعامات ورقية تعيش على فتات الذاكرة الوطنية. حتى عباراتهم الثورية مستعارة من نضالات غيرهم. أحدهم كتب: “سنقاتل حتى آخر شاب”، وكأنه يتحدث عن معركة طاولة، لا عن وطن يحترق.
مأساة هذه البلاد ليست في من اغتصبوا السلطة بالسلاح فقط، بل في من أضاعوها بالثرثرة. ليست فقط في الجنرال الذي كذب على الشعب، بل في المدني الذي أقسم ألا يعود إلى الحكم، ثم أصبح وزيرًا للثورات المنهوبة. مأساة هذه البلاد أن أهلها تعبوا من انتظار بديل، فجاءهم الرد في شكل مزيد من نفس الوجوه: ممثلون فاشلون يلبسون عباءة التغيير، ويظنون أن الهتاف يكفي لتصبح ثائرًا، أو أن إدانة القتل من خلف الميكروفون تعني أنك من “أبطال المرحلة”.
لقد أصبح النضال عند بعضهم وسيلة لجلب التأشيرات، وصكوك المعارضة مجرد جواز سفر للمؤتمرات. أحزاب لا تنتمي للوطن، بل تنتمي لخرائط مصالحها. تعيش على الفتن، وتتنفس عبر الأنظمة الأجنبية. لا تقرأ الواقع إلا بعين الرعاة الدوليين، ولا ترى الشعب إلا حين تحتاج التوقيع على “وثيقة”.
هذا الوطن لن يقوم على يد من كانت ضمائرهم مرهونة، ولن يُنقذ على يد من يكتبون مستقبلنا بقلم الاستهبال. لا خلاص في أحزاب تصف نفسها بـ”القوى السياسية” وهي لا تقوى حتى على تنظيم مؤتمر دون تمويل خارجي. ولا أمل في زعامات تخاف الحقيقة أكثر مما تخاف العسكر. إن الكارثة ليست فقط في الذين قتلوا الحلم، بل في الذين ساوموا عليه وهم يغنون للنضال بأصوات مرتعشة.
نحن في حاجة إلى ثورة على هذه الأحزاب، كما نحن في حاجة إلى ثورة على القتلة. فالثورة التي تسكت عن الساسة المتسلقين، كالثورة التي تسكت عن العسكر ، لا تُثمر غير الهزيمة