بسم الله الرحمن الرحيم احقاً مات الشريف ؟ أحقاً خلت منه الساحة ؟ بقلم: صلاح احمد ابراهيم

مجلة الدستور بعدد في 15/1/1998م
هكذا نقف بإزاء المنية – مستهولين غير مصدقين – من حيث لا ينبغى لنا ، وكم رأينا مصرع كبير وعزيز ولو كان موت فقيدنا الراحل موت شخص عزيز وحسب ، لأسينا وحزنا ثم عدنا لواجبات الحياة باعتبار ماحدث جرحاً شخصياً وألماً خاصاً . اما ان نفتقد فجأة رجلاْ كان يصنع الأحداث ، وقائداً يحرك الجماعات ، وزعيماً يُرجع إليه ، ورائداً تُنتظر منه المبادرات ، فان الفقد يتخذ أبعاداً تتخطى الشخص الى الشخصية ، والموت يلقي باسئلة تتعدى المفقود الي المفتَقد فلا غرو ان أخذنا نردد (وفي خواطرنا تضطرب الاحتمالات) : “أفي هذا المصاب الجلل بداية انقشاع المأزق ام بداية تفاقمه؟” .. نردد مستهولين غير مصدقين لا من حيث الحقيقة بذاتها ولكن لما سينجم عنها :
احقاً مات الشريف ؟ أحقاً خلت منه الساحة ؟ نحن بنو الموتى فما بالنا نعاف ما لابد من شربه.. ان الحياة قصيدة ابياتها اعمارنا والموت فيها القافية .

اين الأكاسرة الجبابرة الالي كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا

وكما قيل :فان حياة بعض الناس موت ، وموت بعض الناس حياة .. كان رحمه الله رجلاً كبيراً بحق .. وكان رحمه الله رجلاْ كريماً .. وكان رحمه الله رجلاْ حليماً .. وكان رحمه الله رجلاْ مقداماً .. وكان رحمه الله رجلاْ متواضعاً وزعيماً .. وكان رحمه الله رجلاْ ذكياً وموهوباً .
هذا بعض ما اصفه به ، وما وصفته به لأنه مات .. الموت من بعد يستثير النزعة للمبالغة في ذكر محاسن من مات ، ولكن وصفته بما عرفت عنه وبما هو حق وصفه علي المنصف . فالمنحاز بدءاً يبالغ .. ولكن المنصف يشهد .. وصفته بعد مماته بما كنت اصفه به ما اقتضتني المناسبة في حياته ، ووصفته به وانا من يعرف بنو وطنى اجترائى بقول الحق عن كل من تعرَّض للمسئولية العامة وتصدى للامانة ، لم استثن احداً .. ولم اداهن احداً .. لأنه لا غرض لي عند احد. ولا مقصد لي غير الحق .. وفي خلال ذلك اخطىء واصيب وضميرى في الحالتين مطئمن .

كان الشريف حسين الهندي اريحياً وهاباً .. يذل ماله لأجل مجده .. يقضي الحاجات ،ويكلاً المحتاج .. ويقيل العثرة .. ويدعو الجفلي .. بابه مفتوح وقاصده ممنوح .. ويده ندية . وكان الفقيد ذكياً موهوباً .. ذا ذاكرة حفيظة لاتفلت منها الاسماء او الارقام ، خطيباً ذرباً بلغتين .. قوي العارضة قديراً علي التاثير .. محنكاً في مجالي عمله : المال والسياسة ، حسن التدبير .. واسع المصادر باسلوب تميز به وتفرد ..
وكان الشريف حسين رجلاً مقداماً .. يجابه صلداً عند المجابهة، ويلاين مرناً عند الملاينة .. ولكنه دائماً يقتحم الموقف الصعب .. ويتصدى للمأزق الحرِج .. ملء العين والبصر؛ لم يقصِّر فى نشاطه الاعلامي والعسكري والتنظيمي .. بعزيمة صادقة؛ فاذا هو بمفرده جيش عرمرم يضرب القدوة في المثابرة والمصابرة والتحدي؛ لم يرأف علي نفسه ولعل ذلك بعض ما اودى بحياته وهو فى ذروة العطاء .

فمضى الشريف حسين الي رحاب ربه .. بعد ان ترك من بصمات العمل القومى والحزب ما يصعب تكراره .. ولندع صلاح ذلك الكاتب والمقاتل العنيد الذي لا يعرف المحاباه او المجاملة ..لندعه يتكلم في الشريف وعن الشريف ليعرف ابناء وطني .. ورفاق دربي – وقد تفرقت بهم السبل – أي خسارة تلك التي المت بهم وعن أي فقْد نحن نتكلم ..انه فقْد امة .. نعم فقْد امة بكاملها .. نبحث عنه اليوم في ليالينا المظلمة فلا نجده .. ونجمع نثار هتاف قديم .. فلا نرى غير اصداء بعيدة .. بعيدة ..

يكفينى هنا والحزن منيف .. ان احني رأسي اجلالاً .. لرجل مقاتل بحق.. لم يضن بدقيقة من وقت أو ذرة من نشاط في سبيل ما نهض فى سبيله حتى خر في ذلك صريعا؛ لقد كان صوتاً عاليا من أصوات المعارضة السياسية في السودان … بل اعلاها صوتا .. وكان وجهاً مبرزاً للمعارضة السياسية في السودان ، وفي مواقف ومنابر، وجهها الوحيد .. وكان بجانب ذلك نموذجاً مجسداً للتفاني والبذل والاصرار .. اتفق المرء ام اختلف في شىء احنى رأسي اجلالاْ للعزيمة لم تهن .. وللشجاعة لم تنخذل .. وللسماحة التي دأبنا على تسميتها بالخلق الاصيل تزين الساحة .. احني رأسي اجلالاْ لجوال حمل قضيته علي العاتق واغذ السير .. في ليل ونهار .. في عافية ومرض .. في غربة ممضة ووحدة مريرة .. وفي الجوانح لهفة محلاْ عن مائة، وفي الفؤاد نيل ونخيل ودار وعفاة .. وفى المسامع أصوات احبائه الذين خلَّفهم على عجل من ورائه .. يحول بين الوصال والاتصال حديد علي كتف وحديد علي الصدر .. وحديد علي الساعد ..وحديد علي النعل .. واه من الليل ووحشة الطريق .

لاينبغي لشامته ان يقر عينا او يهدأ بالاً .. بهذا الفقد الفاجع .. والامل المهيض .. فالموت عظة الغافل والمغرور .. يطول الاعزل .. ويطول العزيز ولو كانوا في بروج مشيدة .. ولا ينبغي لشامته ان يقر عيناً ويهدأ بالا .. فإن مالا يذهب قط باق هناك. الافراد مهما بلغ شأوهم وعظم شأنهم وجلَّ عطاؤهم هم بضعة شعبهم الولود .. اذن فما مات الشعب ولا مات تصميمه .. وها المارد يتحرك، والجبل يتململ، والتنور يفور.. ولعل في هذا الفقد ما يوقظ الهمم .. وما يزيد الشعب المناضل حمية علي حمية وهو يرى الغائب آيب، ولا تزال تحكم الوطن النبيل المعايب :

قل لمن عربد في الشعب طويلاْ لعنة التاريخ في إسمك تلصق
عبثاً تطلب منا المستحيـــلا نحن قناصك والسيف المعلَّق

حين كان العمل يتطلب من الشريف حسين الهندي رفع الصوت بالكلمة المرة .. جهر بصوته .. وحين كان العمل يتقضي حمل البندقية تحامل على ألمه .. وحمل البندقية موغلاً في الصحراء .. وحين كان العمل يتطلب منه سهر الليل، تحمَّل اعباء مرض السُكَّر واعياء القلب والبدن وسهر الليل .. وحين كان العمل يتطلب منه الصبر على الجدل .. صبر وجادل حتى تعبت منه اللهاة .. كان في كل مكان؛ وفى كل عمل؛ ولقد كان بإمكانه (لو شاء) .. ان يعيش مرتاحاً في بحبوحة بما تحت يده من مال؛ ولكنه آثر عيشة الجندي المقاتل في اخشوشان الجندي المقاتل ومات – حين مات – في ميدان القتال ما بين الجبهة والجبهة .

فيا رفقة فقيدنا المناضل المقاتل .. تراثه النضالي المقاتل، امانة في اعناقكم؛ فلا تهِنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون .. ضعوا ايديكم في يد شعبكم .. وفي يد أخوة آخرين – بالغاً ما بلغ الخلاف أو الاختلاف – حتى تنجلي غمة الوطن .. سدوا الثغرة وكونوا علي ما كان عليه حزماً وجرأة وثباتاً واصراراً؛ فالمسئولية بأكملها انتقلت اليكم بعده .. ابقوا الراية خفاقة والمشعل عالياً والصوت كما كان جهيراً .

مقالات ذات صلة