في مسيرتي الطبية، وخاصة خلال عملي في مستشفى الشعب التعليمي بالخرطوم، تعلمت من أستاذي بروفيسور داوود مصطفى – رحمه الله – أن علاقة الطبيب بالمريض لا تقتصر على التشخيص والعلاج فحسب، بل هي علاقة إنسانية وإيمانية قد تصلك بأبواب الرحمة وأسرار القبول عند الله.
كنت معتادًا على المرور اليومي على المرضى في عنابر الباطنية والمخ والأعصاب ثلاث مرات: صباحًا في الثامنة، ظهرًا في الثانية، ثم مرور المساء بعد العيادة، ولو كان ذلك في منتصف الليل.
وذات مرة، كان من بين المرضى رجل بسيط المظهر، فقير الحال، يرافقه ابنه وزوجته، كان دائم الذكر، لا تفارق يده المسبحة، وكان كلما زرته دعاني بدعاء .
وفي أحد أيام الجمعة، بعد الصلاة، ذهبت كعادتي لزيارة المرضى، فوجدت سريره خاليًا. علمت أنه تُوفي. وبما أنني كنت أعلم أنه من سكان أمبدة، ذهبت إلى مقابر حمد النيل، القريبة من منزلي، علّي أصادف دفنه، وكانت فرصة لزيارة قبرَي والديّ رحمهما الله.
ما إن دخلت المقابر حتى رأيت جمعًا غفيرًا، يفوق الألف، يشيّعون جنازة. قلت في نفسي: هذه منازل رحمة، فأشركت نفسي في الصلاة والدفن. بعد ذلك، رأيت عددًا من الشيوخ أعرفهم، ملتفين حول صبي يواسونه. اقتربت منهم، فإذا بالصبي هو ابن ذلك المريض الذي كان يرقد عندي في المستشفى.
قرأنا الفاتحة معًا، واحتضنني الصبي وبكى بحرقة حتى تحيّر من حولي. ثم ألقى كلمة مؤثرة أمام الجموع، تحدث فيها عن والده، وشكرني على حسن معاملتي له. عندها اقترب مني شيخ جليل أعرفه، وقال لي: “بعد صلاة الجمعة، غلبني النوم، فرأيت هاتفًا يقول: إن رجلًا من الصالحين سيُدفن اليوم في مقابر حمد النيل، فجئتُ ومعي أكثر من ثلاثمائة من حفظة كتاب الله”.
وقفت لحظتها وأنا مشدوه، أحمد الله على أن شرفني بخدمة هذا الرجل، وأكرمني بحضور جنازته، بل وبأن أُدفن في ذاكرته كطبيب أحسن إليه.
رسالتي لأبنائي الأطباء:
لا تنظروا إلى المريض بعيون المهنة فقط، بل انظروا إليه بعيون القلب والنية. بين مرضاكم من هم أولياء لله لا تعلمونهم، لكن الله يعلمهم. فكونوا رحماء، مخلصين، مراعين لحالهم، فرب دعوة من مريض تُفتح بها لك أبواب السماء، ورب ابتسامة صادقة تُكتب في ميزان حسناتك يوم لا ينفع مال ولا بنون.
واعلموا أن الطب، حين يقترن بالإيمان، يصبح عبادة لا تقل عن قيام الليل، بل قد تفوقه إذا أُخلصت النية.
د. أبشر حسين