*اختراق النيابة العامة* على عسكوري ١٨ يونيو ٢٠٢٥*

العام الماضي /صرح الفريق اول ياسر العطا بأن هنالك العديد من المؤسسات الحكومية التى ما تزال تحت سيطرة القحاتة. من بين تلك المؤسسات ذكر بالاسم النيابة العامة. وكما يحدث دائما في بلادنا، لم يهتم احد بمتابعة تلك التصريحات و (تنظيف) المؤسسات التى ذكرها العطا في تصريحه، وهكذا بقي القحاتة في مواقعهم يقدمون خدماتهم للجهات الخارجية دون خوف من رقيب او من عقاب.

الآن وقع الفأس في الرأس كما يقال، وحدث اختراق خطير في اكثر مؤسسات الدولة حساسية .. (النيابة العامة) كما نوضح وهو الامر موضوع هذا المقال.

ورغم اننى توقفت عن الكتابة في الشأن العام منذ فترة بعد ان خلصت الى انه حرث في البحر لا طائل منه، الا ان موضوع اختراق النيابة العامة اقلقنى جدا واضطرنى للعودة للكتابة مجددا، وها انا اعود للتنبيه مرة اخري، لأن اختراق النيابة العامة امر بالغ الخطورة ليس على العدالة فحسب بل على بقاء الدولة نفسها. والامر كذلك، قفز الى رأسي سؤال: لماذا يقدم بعض أبنائنا حياتهم ثمنا للدفاع عن الدولة بينما يسخر الاخرون مواقعهم لنحر العدالة وتقويض اهم ركن في الدولة!

في اكتوبر ٢٠٢٣ اصدر مجلس حقوق الانسان قرارا بانشاء بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق -.في السودان والانتهاكات التى صاحبت حرب المليشيا في ابريل ٢٠٢٣م.
جاء تكليف البعثة لتحقيق تسعة اهداف ابرزها: التحقيق في جميع الإنتهاكات والتجاوزات، جمع وتوحيد وتحليل الادلة، توثيق المعلومات ذات الصلة، تقديم توصيات بشأن تدابير المساءلة وغيرها (موقع المجلس على الشبكة).
رفضت الحكومة الاعتراف باللجنة او التعامل معها من حيث المبدأ.
وكنتيجة لهذا الموقف لم يكن متاحا للبعثة زيارة السودان للحصول على المعلومات الموثقة او زيارة اى موقع، ولذلك اصبحت البعثة تستقي معلوماتها من مصادر ثانوية اغلبها من (قحاتة) مقيمين في كمبالا، نيروبي او اديس ابابا كما اعلن ذلك رئيسها في تقريره الاخير.

اللافت في موقف الحكومة من البعثة هو انه رغم إعلانها عدم الاعتراف بها من حيث المبدأ ورفضها التعامل معها، إلا إنها حضرت و تحضر الاجتماعات التى تقدم البعثة فيها تقاريرها و تقوم بالرد عليها، وهذا تناقض لا يمكن أن يحدث الا في النيابة العامة السودانية. من نافلة القول، طالما كانت الحكومة لا تعترف بالبعثة لماذا تحضر تقديم تقريرها وتتولى الرد عليها! وحقيقة لا ادري كيف يكون الاعتراف اكثر من هذا! وبأفتراض ان الحكومة اعترفت بالبعثة ماذا كان يمكنها ان تفعل اكثر مما فعلت وتفعل حاليا! هذا قدر من التناقض والفوضي غير مسبوق يستوجب المسآلة والمحاسبة. فاى طالب حقوق في الشهر الاول في السنة الاولى كان سيقول لك ان على الحكومة مقاطعة الجلسات التى تقدم فيها البعثة تقريرها وعدم الرد عليها طالما لا تعترف بها! لكننا ابتلينا بنيابة عامة تتجاوز او تنتهك مواقف الدولة التى تمثلها ولا تهتم به. الراجح عندي انما حدث ويحدث يتم عن قصد وليس جهلا.
لكن هذا ليس الاخطر في تجاوزات وانتهاكات النيابة!

في داخل السودان شكلت الحكومة لجنتين للتعامل مع قضايا حقوق الإنسان وقضايا العدالة الدولية وهما:

١)لجنة انتهاكات القانون الدولي والقانون الدولى الإنساني وجرائم الدعم السريع برئاسة النائب العام وعضوية اكثر من عشر جهات اخري وعشرات العمال والموظفين. هذه هي اللجنة التى تعنينا في المقال
٢) لجنة الدعاوي الدولية برئاسة وزير العدل، وهذه تهتم بالدعاوي الدولية كتلك التى رفعتها الحكومة ضد دولة الامارات ولا علاقة لها بمجلس حقوق الانسان.

اتسم عمل لجنة الانتهاكات بالسبهلليلة والتفريط في قضايا خطيرة تتوزع تفاصيلها بين عضويتها المنتشرة وهي في جوهرها قضايا تتعلق بجرائم خطيرة وقعت على آلاف الافراد ليس اقلها القتل العمد والتصفيات والاحتجاز غير القانوني والاغتصاب والتهجير القسري الخ.. وكلها جرائم خطيرة جدا تتعلق بامن الدولة وامن الاسر والمجتمع، لكن اللجنة تعاملت معها بتفريط وسبهللية غير مسبوقين. وقد سبق وان استمع الناس في الوسائط لتسريب لتسجيل صوتى للنائب العام نفسه، الأمر الذى كشف عن انعدام تام للحساسية التى تعامل بها الرجل مع قضايا تقع في صلب العدالة.

الا ان الأخطر من كل هذا هو الاختراق الذي كشفه المقرر الاممي السيد محمد شاندى عثمان في تقريره اذ قال بالحرف الواحد:” منذ تقريرها الاخير لمجلس حقوق الانسان قامت البعثة بي ٢٤٠ مقابلة وتلقت ١١٠ إجابات مكتوبة […] كما بدأت تعاونا سريا مع هيئات قضائية مدنية على الرغم من رفض السودان السماح للبعثة بدخول البلاد”.( موقع المجلس بتاريخ ١٧ يونيو ٢٠٢٥).
ما يهمنا في هذا التصريح هو تعبير ” تعاونا سريا” مع هيئات قضائية معنية.
ان الجهة القضائية الوحيدة المختصة بالملف هي اللجنة التى يرأسها النائب العام والتى سبقت الاشارة لها، اذ لا توجد اى جهة قضائية اخري تتعامل في الملف غيرها. فهذه اللجنة هى الجهة المناط بها تجميع المعلومات واستلام الشكاوي وهو بالضبط ما يحتاجه المقرر. ولا يمكن أن يكون ذلك التعاون شيئا آخر غير تسليم المعلومات التى يتم تجميعها من اجهزة الدولة المختصة او من المواطنين الذين يتقدمون بشكواهم للجنة.
بالطبع لا احد يعلم نطاق وحجم ذلك ” التعاون السري” الا أعضاء اللجنة الذين قاموا بتسليم الملفات والتفاصيل للخبير و اعضاء بعثته. وبما أن الخبير و لجنته التقوا بممثلين للقحاتة في كمبالا ونيروبي يمكن بسهولة استنتاج إنهم تواصلوا مع رصفائهم في ديوان النائب العام و مهدوا لفتح التواصل مع الخبير الاممي، واترك باقي التفاصيل لفطنة القارئ.

يعيدنا هذا الاختراق لتصريحات الفريق العطا التى لم يتبعها فعل لتنظيف مؤسسات الدولة من المرجفين، ولو تبعت تلك التصريحات بالاجراء الضرورى لما وقع هذا الاختراق الخطير جدا.
الآن لم يعد امام الحكومة الا اتباع سياسة الحد من الضرر damage control اذ لم يعد ممكنا تدارك ما وقع من اختراق. ولذلك اصبح من الضروري:

١) حل اللجنة
٢) اختيار لجنة جديدة بمعايير صارمة لعضويتها خاصة المام عضويتها بحساسية العمل الذي تقوم به.
٣) مراجعة المؤسسات التى اشار لها الفريق العطا في تصريحاته و التأكد من ولاء قياداتها للوطن حتى لا يحدث اختراق في جهة اخري.
ملاحظة عامة هنالك تراخي خطير جدا في قضايا خطيرة من صميم امن البلد، ولا احد يدري من يقدم الحماية للذين يعبثون بأمن البلاد واسرارها.
وكما يستفاد من حرب ايران الحالية فإن قضايا الاختراقات اصبحت المدخل الأولي لتدمير البلاد وضربها من داخلها.
ان واقع بلادنا يقول ان البلاد لم تعد تتحمل اى انتكاسة في اى ناحية ولذلك الحسم وحده من يضمن لنا امن بلادنا وسلامتها.
*نشر بصحيفة اصداء سودانية ١٩ يونيو ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة