*السودان وتشاد: حدود على صفيح ساخن بعد رحيل إدريس ديبي* بقلم د. محمد حسن إمام – معزّز بتحليل إضافي من د. عبدالعزيز الزبير باشا*

حين قُتل إدريس ديبي، حاكم تشاد الطويل الأمد، على أرض المعركة في أبريل/نيسان 2021، امتدت الصدمة إلى ما هو أبعد من نجامينا. لم يكن رحيله مجرد سقوط رئيس، بل كان انهياراً لركيزة أساسية في منظومة الأمن الهشة بمنطقة الساحل والصحراء. ولم يشعر أحد بوطأة هذا الفراغ أكثر من الشريط الحدودي الممتد 1400 كيلومتر بين السودان وتشاد، حيث تتشابك الروابط القبلية، وحركات التمرد، والتجاذبات الدولية بشكل يومي.

*ما بعد 2019: السودان وتشاد بلا بوصلة*

منذ ثورة السودان عام 2019، انجرفت علاقات الخرطوم مع نجامينا إلى مسارات غير واضحة. ففي عهد عمر البشير، ورغم الخلافات، تمكن البلدان من الحفاظ على شراكة براغماتية: دوريات حدودية مشتركة، كبح متبادل لدعم الحركات المتمردة، وتنسيق غير معلن بشأن دارفور. غير أن هذا النموذج انهار مع التحول السياسي في السودان، والأهم مع رحيل ديبي.

في السودان، أدّى صعود قوى مسلحة غير تقليدية ـ وعلى رأسها قوات الدعم السريع المتمردة ـ إلى إضعاف الدولة المركزية، مما ألغى عنصر الاستقرار. أما في تشاد، فقد ورث محمد إدريس ديبي الحكم دون أن يمتلك النفوذ الإقليمي أو الشبكات القبلية والدولية المعقدة التي مكّنت والده من فرض هيبته. النتيجة: علاقة ثنائية بلا مرساة، وحدود بلا ضابط.

*انهيار القوات المشتركة: فراغ عند التخوم*

كانت القوات السودانية التشادية المشتركة، التي أُنشئت عام 2010، تُعتبر نموذجاً أفريقياً ناجحاً في إدارة الحدود. لعقد كامل تقريباً حدّت من تسلل المتمردين، وقلّصت التهريب، وجلبت شيئاً من الهدوء للمجتمعات الحدودية. لكنها اليوم لم تعد أكثر من اسم على الورق.

ومنذ أبريل/نيسان 2023، مع اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمردة، تحوّل الشريط الحدودي إلى ممر مفتوح للأسلحة والمقاتلين والتجارة غير المشروعة. تقارير أممية وإقليمية تحدثت عن تهريب النفط والسلاح وحتى البشر. ورغم إعلان تشاد الحياد، وُجهت إليها اتهامات غير رسمية بغضّ الطرف عن هذه التدفقات عبر شبكات قبلية ومصادر تمويل خاصة.

هذا الانفلات لم يعد مشكلة سودانية فقط؛ بل بات قنبلة موقوتة تهدد تشاد، وأفريقيا الوسطى، والنيجر التي تشهد بدورها اهتزازات أمنية بعد الانسحاب الفرنسي وتصاعد الحضور الروسي.

*أزمات الداخل: دولتان هشّتان وحدود خطرة*

يعيش السودان واحدة من أعقد أزماته: ليست حرب جيوش فحسب، بل صراع رؤى حول الدولة، تغذّيه أطراف إقليمية ودولية. الملايين نزحوا، وأكثر من مليون لاجئ سوداني عبروا إلى تشاد، مما يرهق بلداً بالكاد يستطيع إطعام نفسه.

تشاد، بدورها، على صفيح ساخن. المجلس العسكري بقيادة محمد ديبي يحكم بلا مشروع وطني واضح، والاحتجاجات الشعبية تتصاعد، والانتقال الموعود للحكم المدني يتأجل باستمرار. مجموعات المعارضة المسلحة في شمال تشاد تترقب وتستمد الإلهام من مشهد السودان، بينما عصابات الجريمة المنظمة تملأ الفراغ. المخاوف في نجامينا كبيرة: أن تنتقل شرارة الحرب السودانية إلى الداخل التشادي.

*أبعد من الجغرافيا: الحدود كممر جيوسياسي*

هذه الحدود ليست مجرد خط على الخريطة. إنها ممر للبقاء والتهريب والنفوذ. قبائل تعيش على جانبيها، ومرتزقة دوليون يتخذونها قاعدة انطلاق، وقوى كبرى تنظر إليها كرقعة شطرنج في معركة السيطرة على قلب أفريقيا.

ومع تراجع الدور الفرنسي في الساحل، تقدمت روسيا عبر مجموعات فاغنر وخلفائها لتملأ الفراغ. بالنسبة لموسكو، تشاد جائزة استراتيجية: منصة تمد نفوذها من ليبيا إلى أفريقيا الوسطى. أما المنظمات الإقليمية مثل الإيغاد والاتحاد الأفريقي، فما زالت مترددة ومنقسمة، تاركة الساحة لتحالفات غامضة وسياسات مؤقتة تزيد النار اشتعالاً.

*ما القادم؟ ثلاثة سيناريوهات محتملة*

مستقبل هذه الحدود لن تحدده المعاهدات بقدر ما ستحدده القرارات الصعبة:
1. استمرار الفوضى: إذا طال أمد الحرب في السودان واستمرت هشاشة تشاد، ستبقى الحدود مرتعاً للمهربين والميليشيات، مع خطر انتقال الصراع إلى الداخل التشادي.
2. إحياء القوات المشتركة: خيار طموح لكنه ممكن، عبر رعاية إقليمية ودعم أممي وهيكلة جديدة للقيادة والتمويل. لكنه مشروط باستعادة الثقة بين الجيش السوداني والسلطة العسكرية في تشاد، وهو ما لا يتوفر حالياً.
3. تدويل الحدود: سيناريو أكثر جذرية، عبر تدخل مباشر للأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي بمراقبة حدودية أو قوات حفظ سلام. لكن هذا يتطلب توافقاً دولياً نادراً لا يبدو أن واشنطن أو باريس أو موسكو مستعدون لتقديمه.

*خاتمة: مصير مشترك ونار واحدة*

السودان وتشاد مرتبطان ليس فقط بالجغرافيا، بل بالدم والتاريخ والمصير. اختفاء الآلية الأمنية المشتركة لا يعكس مجرد إخفاق مؤسسي، بل انهياراً للثقة الإستراتيجية بين بلدين متداخلين في المصالح والمصائر.

وإن تُرك الوضع دون إدارة، فلن تبقى الحدود حاجزاً، بل ستتحول إلى جبهة مشتعلة. الخيار أمام الخرطوم ونجامينا واضح: إحياء التعاون تحت مظلة إقليمية ودولية، أو مواجهة خطر تحوّل حدودهما إلى خط الصدع التالي في خريطة عدم الاستقرار الأفريقي.

التحليل الأصلي بقلم د. محمد حسن إمام. أضيفت تعزيزات سياقية وإطارية لتقوية الرؤية الجيوسياسية.

*د. عبدالعزيز الزبير باشا*
*16/09/2025*

مقالات ذات صلة