كنت هناك..
رغم الحرب ورغم الانقسام وخطاب الكراهية..
رغم استهداف المليشيا للإنسان والحياة..
ما زالت الثقافة والمسرح تصر على أن يكون لها دور ووجود وصوت. تلك كانت اللحظة التي التقط فيها العرض الشهري لاتحاد الأدباء والفنانين أنفاسه عبر مسرحية “خرف”، دراماتورج وإخراج ربيع يوسف، عن نص مونودراما للمؤلف سيد عبد الله صوصل.
المسرحية في ظاهرها حكاية تصارع ذاكرة متكسّرة، لكن في عمقها مرآة للمجتمع السوداني..
لخذلانه وأحلامه المكسورة..
لواقعه الذي يتأرجح بين الفقدان والأمل..
ربيع يوسف قدّم النص بتوازن بارع بين البساطة والرمز، فتحوّل الخرف من مرض فردي إلى استعارة واسعة عن الخسارات التي تحاصرنا..
خراب المدن..
تشتت العائلات..
وضياع الذاكرة الجمعية تحت ركام الحرب..
ما يلفت النظر أن الشعر لم يكن مكمّلاً زخرفياً بل جزءاً من النسيج الدرامي. مقاطع عاطف خيري وأمين صديق انداحت على الخشبة كأنها أنفاس الشخصيات، تارةً كالصرخة وتارةً كالتنهيدة، مما جعل الجمهور يعيش جدلية الشعر والمسرح في وحدة واحدة.
أما الممثلات أمينة فتحي، نسيبة نجم الدين، وإيثار سفيان فقدمن أداءً مكثفاً، يراوح بين الصمت الناطق والحركة المشبعة بالدلالات. وجوههن وأجسادهن وأصواتهن كانت النص الموازي الذي حمل كل الرموز.. الأمهات..
الوطن..
الطفولة..
وحتى الغياب..
بدا وكأن كل جملة تتحوّل في لحظة إلى صورة حيّة، خاصة مع المؤثرات الصوتية والموسيقية التي وضعها علاء الدين السر، والتي صاغت خلفية مشحونة بالرهبة والحنين.
الفيديو والتصميم البصري لمحمد زبيداي ومحمد الحسن بارما بدورهما منحا العرض ملمساً سينمائياً، فجعل الحضور محاصراً بالظلال والإيحاءات، كأنه داخل الذاكرة التي تنهار وتتداعى. كان ذلك توظيفاً ذكياً للوسائط في خدمة النص لا للتغلب عليه.
المسرحية في مجملها ليست مجرد عرض، بل شهادة فنية على أن المسرح السوداني ما زال رغم شح الامكانيات والاهمال الرسمي يقاوم بالرمز ليستمر.
“خرف” نص عن النسيان لكنه يوقظ ذاكرتنا..
عن التلاشي لكنه يذكّرنا بضرورة الحضور..
عن الانقسام لكنه يدعونا للوحدة..
عن فقدان المعنى لكنه يعيد للمسرح دوره كمكان يُرمَّم فيه الإنسان بالخيال..
هكذا خرجت من المسرح وأنا أتمتم بما يشبه الشعر
“بعد حينٍ يتكاثف الدودُ احتماءً
فانتظر إلى أيّ دُودٍ يقود الغياب…”
ذلك هو صوت المسرح حين يتجاوز الترفيه ليصير فعلاً وجودياً، يقف في وجه الخراب ليقول ما زال هنا ما يستحق أن يُعاش.
وائل عبدالخالق مالك