في كل مرة يظهر فيها خبر عن تحركات دبلوماسية لا تُعلنها الحكومة يندفع جزء من الرأي العام لطرح أسئلة مشروعة حول السرية والجدوى. هذا أمر طبيعي ولكن ما يحتاجه النقاش اليوم هو قدر أكبر من التمييز بين حق الناس في المعرفة وبين تقييم الظروف التي تفرض قدراً من التحفظ في ملفات تتعلق بالأمن القومي ومسار الحرب والسلام. فالدول لا تُعلن كل اجتماعاتها السياسية والأمنية خصوصاً حين ترتبط بوقف حرب أو تفاوض مع شركاء دوليين يميلون إلى تجريب القنوات الهادئة قبل الانتقال إلى الطاولة العلنية. السرية هنا ليست علامة نقص بل أحياناً شرط لنجاح الخطوة الأولى. والربط بين سرية هذه اللقاءات وحالة نهج غير حميد يحتاج أدلة أقوى من مجرد الاستنتاج.
لا أحد يجادل في حق الناس في معرفة ما يجري حول مستقبل بلادهم. لكن هذا الحق لا يبرر القفز إلى استنتاجات تُبنى على نصف معلومة أو على تسريب خرج من جهة لا نعرف دوافعها ولا هدفها من تفجير الموضوع قبل أوانه.
المعلومة الناقصة التي تتحدث عن اجتماع غير معلن بين الحكومة والاتحاد الأوروبي في بروكسل ليست في حد ذاتها مدخلاً للقلق. فالعالم كله يدير مثل هذه اللقاءات بعيداً عن الأضواء حين تكون الملفات حساسة وعندما يتطلب الأمر مساحة هادئة لاختبار النوايا قبل أن تتحول الخطوة إلى إعلان سياسي مكتمل.
هنا ما يغيب عن السرد المتعجل للاستاذ الطاهر ساتي إن السرية ليست مرادفاً للمؤامرة، بل أحياناً شرط لصناعة بداية قابلة للحياة. والاتحاد الأوروبي ليس خصماً في هذا الملف بل أحد الأطراف القليلة القادرة على التأثير في المسارات الإنسانية والسياسية حتى لو اختلفنا معه في تقديراته أو أولوياته.
ومع ذلك جاءت قراءة الموضوع في المقال محل النقاش وكأن عدم الإعلان قرينة على نوايا مبيتة. وهذا تقدير لا يستقيم علمياً ولا دبلوماسياً فالتفاوض في ظل حرب مفتوحة لا يحتمل الضوضاء المبكرة ولا يحتمل أن يتحول إلى مادة سجالية قبل أن يتضح مساره. وحتى النقاش حول العدالة الانتقالية أو المحكمة الجنائية يدخل عادة في أي حوار دولي من هذا النوع من باب الإحاطة وليس من باب التعهد.
الخلط بين السؤال المشروع والتفسير الاتهامي يربك الرأي العام أكثر مما يخدمه. والحديث عن أن الشعب آخر من يعلم يفترض أن الإعلان حق مطلق بغض النظر عن توقيت الحوار، وهو طرح لا يراعي الظروف التي تحكم مثل هذه الخطوات خاصة حين تكون التجارب السابقة مليئة بالضغوط والتدخلات.
اكثر ما أثار استغرابي هو أن الاستاذ الطاهر ساتي اسم حاضر في الصحافة السودانية منذ سنوات طويلة، وصوته لا يحتاج إلى افتعال التوتر حتى يكتسب وزنه او القدرة على التأثير. لكن طريقة طرح هذا الملف تفتح باباً لا يمكن تجاهله وتستدعي طرح تساؤل مشروع وهو من أين جاء هذا التسريب؟
ولماذا خرج بهذه الطريقة وفي هذا التوقيت؟
وما الذي يفترض أن يجنيه من سرّب الخبر من تحويل اجتماع تمهيدي إلى مادة مثقلة بالإيحاء؟
والسؤال كذلك يمتد إلي استاذنا الطاهر ساتي، ما الذي يدفع صحفياً بخبرتك إلى تبني معلومة ناقصة من مصدر مجهول الدوافع، ثم تقديمها للقارئ كأنها دليل على نهج حكومي مغلق؟
وما الذي يربحه الطاهر ساتي من هذا المسار سوى منح صاحب التسريب منصة مثالية لتمرير روايته؟
هذه أسئلة ضرورية لأن الشفافية لا تُبنى فقط على مطالبة الدولة بالإعلان، بل أيضاً على مساءلة المصادر التي تختار توقيتاً حساساً لدفع معلومات ناقصة إلى العلن.
المطلوب اليوم ليس محاكمة النوايا بل ترشيد النقاش. الحكومة قد تخطئ في التوقيت والصحافة قد تخطئ في التقدير، لكن البلاد لا تحتمل تحويل كل خطوة دبلوماسية إلى مادة ظنية. ما يهم الناس هو النتائج المتمثلة في تقليل معاناة الشعب والحفاظ على مصالح الدولة وسيادتها وحل المليشيا نهائيا واستقرار البلاد وفتح نافذة تُخرج السودان من هذا النفق الطويل.
السؤال الحقيقي ليس لماذا لم يُعلَن الاجتماع؟
بل هل تساعد مثل هذه التسريبات بهذا الأسلوب في دعم المسار أم تعقيده؟
#جيش_واحد_شعب_واحد
#مافي_مليشيا_بتحكم_دولة
#ضد_الجنجويد
#حكومة_الأمل
#جيشنا




