قادت التطوّرات أخيراً في إقليم دارفور في غرب السودان، وفي مقدمتها سقوط مدينة الفاشر فيه، وما تلاه من انتشار لقوات الدعم السريع في كامل الإقليم وأجزاء واسعة من كردفان، إلى إعادة طرح أسئلة جوهرية بشأن مستقبل الصراع في السودان وموازين القوة بين أطرافه. فعلى الرغم من الانطباع العام أن تغيّراً جوهرياً قد حدث في السيطرة الميدانية، تكشف القراءة المتأنية بجلاء أن ما جرى لا يعكس تحوّلاً استراتيجياً عميقاً أو تغيّراً في جوهر المعادلة، فالجيش السوداني، رغم ما واجه من ضغوطٍ وتحدّيات، يظلّ المؤسّسة الشرعية التي ارتبطت بنشوء الدولة السودانية، التي تستند إلى جذور تاريخية واجتماعية تمتدّ إلى ما يقارب المئة عام. وليست هذه الشرعية توصيفاً سياسياً عابراً، بل هي جزء من البنية العميقة للمجتمع السوداني، وقد حافظت المؤسّسة العسكرية، حتّى في أصعب فترات الحرب، على أعلى مستويات الانضباط والمؤسّسية والقابلية للتواؤم مع مجريات الحرب وتطوّراتها، وهو ما ميّزها من المليشيا التي تتكئ على الولاءات الشخصية وغياب المؤسّسية والانضباط.
لا يقوم تمدّد قوات الدعم السريع في دارفور وبعض مناطق كردفان على قاعدة اجتماعية متماسكة، ولا يستند إلى قبول سياسي أو قدرة إدارية، كما أنها لم تُختبَر في إدارة المجتمعات أو تقديم الخدمات أو تأسيس سلطة مستقرّة. لذلك؛ ما يبدو للناظر من سيطرة شكلية هو في الواقع تعبير عن فراغ سياسي وإداري عريض، وجدت المليشيا نفسها في خضمّه من دون أن تملك الأدوات اللازمة لتحويله سلطةً فعليةً أو شرعيةً معترفاً بها.
وصف مسؤولون أمميون الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بأنها ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية
في الوقت نفسه، كشفت التطوّرات أن تحالف “تأسيس”، الذي يمثّل الواجهة السياسية للمليشيا، أبعد ما يكون عن الفعل السياسي الحقيقي، فلم يستطع بناء هياكل حكم محلية، ولا تقديم رؤية وطنية، ولا مخاطبة المجتمعات المحلية بخطاب مقبول. وقد بقي دوره محصوراً في البيانات الإعلامية، من دون أثر على الأرض، الأمر الذي جعل “الدعم السريع” مكشوفةً سياسياً، تعتمد على القوة الخشنة بلا ظهير مدني قادر على إسناده. وتواجه “الدعم السريع”، إلى جانب ضعف البنية السياسية، مأزقاً أخلاقياً وإنسانياً متفاقماً. فقد كشفت المنظمات الدولية والصحافة العالمية سلسلةً من الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها هذه القوات في الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان، وشملت عمليات القتل الجماعي، والاغتصاب، ونهب ممتلكات المواطنين، واستهداف الجماعات الإثنية الأخرى في هذه المناطق. ووصف مسؤولون أمميون هذه الأفعال بأنها ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. ومع تراكم الشهادات والأدلة والإدانات الدولية، أصبح وضع المليشيا أكثر هشاشةً، خصوصاً بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو التي أعرب فيها عن القلق البالغ للولايات المتحدة الأميركية، إذ وصف ما يجري هناك بأنه “أمر مرعب”، داعياً إلى ضرورة قطع إمدادات السلاح عن قوات الدعم السريع.
وبينما تتحرّك المليشيا فوق جغرافيا منهكة وموقف سياسي هشّ، يمسك الجيش السوداني بعناصر قوة حقيقية تتمثّل في: الشرعية الدستورية، والعمق الاجتماعي، والسيطرة على المؤسّسات السيادية والمنافذ البحرية والمطارات الحيوية، وغيرها.
لذلك؛ فمهما بدا المشهد بعد الفاشر قاسياً، فإنه لا يمثّل نهاية المعركة، ولا تغييراً جذرياً في موازين القوة، فالتمدّد الذي حقّقته المليشيا لا يزال تمدّداً ظرفياً فوق أرض غير مستقرّة، بينما يحتفظ الجيش ببنية أكثر صلابةً وقدرةً على استعادة المبادرة. وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن يُبنى مستقبل السودان على قوة مسلحة تطاردها الانتهاكات ويفتقر حلفاؤها إلى القاعدة السياسية والاجتماعية، بل سيُبنى، كما تشير خبرات الدول، على المؤسّسات الشرعية التي تمثّل الشعب والدولة معاً.
لكن ما تجدر الإشارة إليه هو بروز سرديات خارجية وداخلية تحاول، في خضم هذا المشهد المضطرب، المساواة بين الجيش بوصفه المؤسّسة الرسمية للدولة، وبين مليشيا متمرّدة تمارس القتل والنهب والاغتصاب بحقّ المدنيين. وقد أسهمت المنابر الإعلامية المُضلِّلة في تعزيز هذه السرديات وتوسيع نطاقها، بينما تراجعت الرواية التي تضع الأحداث في سياقها الحقيقي، وهو صراع بين دولة تسعى إلى الحفاظ على كيانها ووحدتها، وبين قوة مسلحة تعمل لتمزيقها وإضعافها ورهن قرارها للخارج، حفاظاً على مصالح شخصية ضيقة.
السردية الزائفة التي تساوي بين الجيش السوداني ومليشيا متمرّدة لن تصمد طويلاً أمام تراكم الوقائع والحقائق الجلية
ليست استعادة هذه الرواية المتوازنة مهمةً سياسيةً عابرةً بقدر ما هي ضرورةٌ مُلِحّة لفهم طبيعة الأزمة السودانية. ومؤكّد أن السردية الزائفة لا يمكنها الصمود طويلاً، فمع تراكم الوقائع والحقائق الجلية، سيجد الرأي العام (في الداخل والخارج) نفسه أكثر قدرةً على التمييز بين من يمثّل السودان دولة وتاريخاً ومن يشكّل ظاهرة عابرة في مسار التاريخ السوداني العريق. غير أن هذا يتطلّب جهداً إعلامياً منظماً يوضّح الصورة ويقدّم السياق الصحيح، ويربط الحدث بجذوره، ويكشف ما تراكم من التزييف والتشويش، حتى تظهر الحقيقة للكلّ واضحةً جليةً لا تشوبها شبهةٌ ولا يعتريها التباس.
الآن، وفي ظلّ توالي الإدانات الدولية للانتهاكات التي ارتكبتها “الدعم السريع”، تبدو الفرصة متاحةً أكثر من أيّ وقت مضى لترسيخ الرواية الوطنية وتعزيز حضورها، إذا ما أحسنت الحكومة استثمار هذا الزخم. على السودان أن يتحرّك بفعّالية عبر مسار مزدوج؛ الأول يوثِّق الانتهاكات بصورة مهنية تُقدَّم في المنابر الإقليمية والدولية، والثاني يتبنى مبادرةً دبلوماسيةً نشطةً تجعل من الإدانات المتزايدة قاعدةً صلبةً لبناء مواقف سياسية وقانونية داعمة لشرعية الدولة. إنّ تحويل هذه اللحظة مكسباً وطنياً يتطلّب خطاباً متماسكاً، وخريطةَ طريقٍ واضحةً تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وتقدّم السودان بوصفه دولةً تعمل في استعادة مؤسّساتها وترتيب أولوياتها الوطنية، لا بلداً يُختزَل في صراع داخلي مفتوح. بهذه المقاربة يُستثمَر الزخم الدولي في الاتجاه الذي يخدم الشعب السوداني، ويهيّئ الطريق نحو إنهاء الحرب.




