*الفاشر… مرآة الدم والخذلان*

منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي فُتِح فيه باب الجحيم على الفاشر وأنا أحمل في داخلي وجعًا لا يكاد القلم يستوعبه، وجعًا جعلني أتأخر في الكتابة لأن الخوف لم يكن من السلطة ولا من المدافع بل من خيانة اللغة نفسها حين تحاول أن تليق بهذا الدم وهذه الذاكرة، خشيت أن أختصر اسمًا أو أن أنسب بطولة لغير أهلها أو أن أمحو وجهًا من وجوه النساء اللواتي حوّلن حزنهن إلى درع، خشيت أن أكتب فاختزل الوجع، فأبقيت الصراخ في داخلي إلى أن انفجرت الحاجة لقول الحق إن ما حدث في الفاشر لم يكن مشهداً عسكريًا عادياً ولا ضريبة حرب بل قرار إبادة ممنهج، خطة مدروسة، تنفيذ بارد الأيدي والقلوب: ذبح واضح علني أمام البيوت والأسواق، قتل ممنهج وتصفية ميدانية لشبابٍ صفّوا على الطرقات كأنهم أشياءٌ بلا اسم، ذبحٌ أمام العيون، دهسٌ بالمركبات المدرعة لأطفالٍ لا حول لهم ولا قوة، اغتصابٌ جائر كسلاح حرب لكسر النسيج الاجتماعي ولتبرير الإذلال، حرقٌ متعمد للمنازل والمدارس والمستشفيات حتى يصبح سقف الحياة نفسه جحيماً، نهبٌ ممنهج للحبوب والدواء والوقود لقتل الناس جوعًا ومرضًا، قطعٌ للاتصالات وعزلٌ معلوماتي متعمد ليُدفن صوت الفاشر تحت ركام الخطيئة، استخدامٌ للمدنيين كدروع بشرية، استهدافٌ للمسعفين والصحفيين والناشطين لمنع التوثيق والإنقاذ، اختطافٌ واختفاء قسري لآلافٍ أُخذوا بلا أثر، كل هذا لم يكن ارتجالًا بل نظامٌ ووظيفةٌ وقيمة عند مَنْ قرروا أن الانتماء هو حكم بالإعدام.لم يكتفوا بأن يقتلوا الأجساد بل حاولوا محو الذاكرة، أرادوا أن يزيلوا اسم الفاشر من خارطة الأخلاق، أرادوا أن يجعلوا العالم ينسى أن هناك بشراً وقفوا ورفضوا الموت كخيار، وأن هناك نساءً حملن الجوع كالدرع وصدوراً كالسند، وأن هناك رجالاً لم يفرّغوا من الشرف حتى لو فُرّغت مخازن السلاح، هؤلاء القتلة والممولون والرافعون للرايات السوداء لم يفهموا أن الدم لا يختفي بين البيانات الدبلوماسية ولا بين تصريحات الندم المصطنعة، فتحوا على أنفسهم طاقة جهنم حين اعتقدوا أن الإسكات يطهر ذنوبهم، حين ظنوا أن الصمت الدولي أو التبرير الإقليمي يكفي ليغسل يديهم من دماء أطفالٍ سقطت دون جنازة.أنا فخورة بأهل الفاشر، برجالها ونسائها وأطفالها، فخورة بصمودهم وعنفوانهم، فخورة بهؤلاء الأبطال الأقوياء الذين جعلوا من المقاومة مذهبًا، ومن العزيمة تاريخًا، وفخري أعظم أن قلبي نبض على أرضهم عشقًا ووفاءً وعرفانًا، فخورة أنك منها، فخرٌ لا يعرفه إلا من ذاق طعم التضحية، هؤلاء الذين جعلوا الجوع سلاح إيمان، والرغيف آخر صلاة.أدعو النيابة الدولية والهيئات الحقوقية إلى أن لا تسمح للبيانات الجافة أن تطمس ما حدث، أدعو إلى تحقيق دولي مستقل فورًا يوثق الجرائم ويوفر حماية فورية للشهود والناجين، إلى محاكماتٍ علنية تمتد من منفذي الميدان إلى مموليهم وراعيتهم السياسيين والدبلوماسيين، إلى تجميد خطوط التموين المالي والعسكري وملاحقة الشبكات التجارية والمالية التي غذّت آلة القتل، إلى إنشاء برامج تعويض شفافة تُدار من أهل الفاشر أنفسهم وإعادة إعمار تحت رقابة مجتمعية محلية ودولية لا تُعطى فرصة لابتلاعها في صفقاتٍ ملوثة، إلى مآزر إنسانية عاجلة لحماية النساء والطفولة وإعادة تأهيل ضحايا الاغتصاب وتهيئة برامج صحية ونفسية مستدامة، إلى قوائمٍ سوداء تُنشر علنًا لكل دولة أو جهة أو شركة ثبت دعمها للمليشيا أو تسهيلها أو غطاؤها، لأن السرّية هنا هي صديق الجريمة.وأقولها بوضوحٍ لا لبس فيه: من فتح على نفسه طاقة جهنم سيجد أن الله لا ينسى وأن التاريخ لا يغفر بمنطق المصالح، وأن العدالة قادمة باسم الضحايا لا باسم الجلادين، وكل من قدّم مالاً أو سلاحاً أو غطاء سياسياً أو تضليلًا إعلامياً سينال حسابه اسمًا باسم، ووجهًا بوجه، وستُسجل أفعاله في دفاتر الخز
أخشى أن أنسى اسمًا، أخشى أن أخون ذاكرة أمٍ دفنت ولدها بين العتمة والبرد، ولهذا أكتب بحدّةٍ أقوى وبحزنٍ أعمق؛ لكي لا يُمحى أحد من ذاكرة الوطن، لكي تقرأ الأجيال قصة الفاشر كاملةً لا مهذّبة ولا مختزلة: جريمةٌ ومقاومة، ذبح وصمود، استباحة الكرامة، خيانة . ألم الفاشر حمّاني من أن أظل صامتة، وقد عطّلني الفزع عن نطق الحروف لأن كل حرف كان يحمل ثمن دم، واليوم أحوله إلى صرخة مطلبية ومهنية: أجلسوا لشهادةٍ علنية، سجّلوا كل اسم، صوّروا كل جرح، حاسبو كل من كانوا وراء آلة القتل أمام محكمةٍ تُحرّر الضحايا من عبء النسيان ،الفاشر علمتنا أن العظمة ليست في القوة المادية فحسب بل في قوة الضمير، علّمتنا أن من يعتقد أن الأرض تباع فقد أساء فهم كرامة الإنسان، علّمتنا أن البطولة الحقيقية هي تلك التي تنبثق من بطن الجوع ومن قلب الخذلان، وأن أسماء الأسود والنمور ستبقى أبدية في ذاكرة شعبٍ لن يترك أبطاله في الأدراج، أنتم يا أهل الفاشر كتبتم تاريخًا لا يمحو، وأنتم يا مقاتليها علمتم العالم أن المقاومة ليست جريمة بل شرف.
لا مكان لمن خان أو تواطأ أو باع ضميره في ذاكرة هذا الشعب، ولا سبيل لأي قناع يخفي الجريمة؛ الفاشر ستظل شاهدةً، والتاريخ مسرحًا لا ينسى، ومن فتح على نفسه طاقة جهنم سيعرف معنى اللهب حين يعود إليه من كل جانب، وسيُكتب في السجلات أن الضمير انتصر في النهاية، وأن العدل إن تأخر فإنه آت لا محالة، وسأظل أكتب وأقاطع صمت المتواطئين وأصرخ حتى تُقام المحاكم وتُرفع أسماء الشهداء وتُعاد الحقوق لأهلها لأننا لا نملك غير هذا الواجب أمام الدم والذاكرة والكرامة

لعنة الله علي المليشيا
وكل من ساندها ومولها ودعمها

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole