)
مناورات الموج الأحمر 8: قراءة في الانعكاسات السياسية والعسكرية والأمنية على حرب السودان
انطلقت فعاليات التمرين البحري المختلط “الموج الأحمر 8” في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي في جدة يوم الأحد 9 نوفمبر 2025م، بمشاركة وحدات من القوات البحرية والبرية والجوية وحرس الحدود السعودية، إلى جانب قوات من الدول المطلة على البحر الأحمر، من بينها السودان وجيبوتي وموريتانيا، وبمشاركة باكستان كمراقب.
التمرين، الذي سيستمر حتى الخميس 13 نوفمبر 2025م، يُعد من أكبر المناورات البحرية الإقليمية التي تقودها المملكة العربية السعودية، ويمثل نقلة نوعية في طبيعة التمارين المشتركة الهادفة إلى تأمين الممرات البحرية، وتعزيز العمل المشترك، ورفع الجاهزية القتالية في مواجهة التهديدات التقليدية وغير التقليدية.
طبيعة التمرين وأهدافه
تركز المناورات على مجموعة واسعة من المهام التكتيكية، تشمل:
▪️الحروب السطحية وتحت السطحية والجوية.
▪️الحرب الإلكترونية والتصدي للزوارق السريعة والتهديدات غير المتماثلة.
▪️حماية الممرات البحرية وخطوط الملاحة الدولية.
▪️مكافحة الإرهاب والقرصنة والتهريب والهجرة غير الشرعية.
▪️تمارين ميدانية مشتركة في المناطق الساحلية والمبنية، تشمل عمليات اقتحام وإنقاذ وإخلاء.
هذه الأنشطة تعكس بوضوح تطور مفهوم الأمن البحري من كونه دفاعًا عسكريًا بحتًا إلى منظومة أمن بحري شامل تمتد من أعماق البحر إلى السواحل والموانئ والمجال الجوي الساحلي.
الأبعاد السياسية للمناورة
من الناحية السياسية، تمثل تمارين “الموج الأحمر 8” رسالة واضحة مفادها أن الدول المطلة على البحر الأحمر تسعى إلى امتلاك زمام المبادرة في إدارة أمن ممرها الحيوي بعيدًا عن الوصاية أو الترتيبات المفروضة من الخارج.
وفي ظلّ الحرب الدائرة في السودان، تحمل المشاركة السودانية في هذه المناورات بعدين رئيسيين:
▪️البعد الأول، تأكيد شرعية الدولة السودانية ومؤسساتها العسكرية في التعامل بندّية مع جيرانها، وإبراز أن الجيش السوداني لا يزال فاعلاً إقليميًا رغم ظروف الحرب.
▪️البعد الثاني، تعزيز موقع السودان ضمن منظومة البحر الأحمر التي تقودها الرياض كإطارٍ أمني واقتصادي متكامل، ما يمنحه غطاءً سياسيًا واقتصاديًا مهمًا بعد الحرب.
كما أن التمرين يرسل إشارة إلى القوى الإقليمية (وخاصة الإمارات وإسرائيل وإيران) بأن أمن البحر الأحمر لن يُدار بمعزل عن الدول الساحلية، وأن السودان طرف أصيل في هذه المعادلة، لا ساحة نفوذ أو اختبار.
الانعكاسات العسكرية والأمنية على حرب السودان
بكل تأكيد تبرز جملة من التأثيرات جراء هذه التمارين و المناورات، و ابرز مافي هذه التأثيرات من انعكاسات يمكن الإشارة اليها في ما يلي:
▪️رفع كفاءة القوات البحرية السودانية: المشاركة أو المتابعة الميدانية للمناورة تمنح السودان فرصة لتحديث تكتيكاته في القتال البحري غير المتماثل، وتبادل الخبرات في الحرب الإلكترونية والرصد الساحلي.
▪️تعزيز قدرات الاستخبار والإنذار المبكر: من خلال التعاون في نظم الوعي الظرفي البحري (Maritime Domain Awareness _MDA) وربطها بمنصات القيادة والسيطرة الإقليمية.
▪️حماية الساحل الشرقي من التهريب والدعم الخارجي للمتمردين، إذ تمثل المياه الإقليمية السودانية منفذًا حساسًا لأي عمليات تهريب للأسلحة أو الإمدادات.
▪️إظهار جاهزية الجيش السوداني كمؤسسة قادرة على الاستمرار والتعاون الإقليمي، مما يُعيد التوازن المعنوي والعسكري في ظلّ حرب الاستنزاف الحالية.
التقاطعات الإقليمية والدولية
البحر الأحمر اليوم أصبح نقطة التقاء مصالح كبرى لعدد من الدول على رأسها الولايات المتحدة، الصين، روسيا، إيران، تركيا، والإمارات.
ومع تزايد الوجود العسكري الدولي فيه، تمثل مناورات «الموج الأحمر 8» نوعًا من التوازن الإقليمي الذاتي، الذي يعيد للدول الساحلية — ومن ضمنها السودان — دورها في تأمين مواردها وحماية مجالها البحري.
في المقابل، فإن نجاح هذه المناورات يثير حفيظة بعض القوى التي تسعى لملء الفراغات الأمنية في الإقليم عبر المليشيات والوكلاء، ما يجعل استمرار مثل هذه التمارين ضرورة إستراتيجية، وليس مجرد تدريب دوري.
الرباعية والدور الأمريكي في معادلة البحر الأحمر
جاء بيان الرباعية الصادر في 12 سبتمبر 2025م (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر) ليؤكد أن الحرب في السودان لم تعد قضية داخلية فحسب، بل أصبحت مسألة إقليمية تمسّ أمن البحر الأحمر الأوسع، كما ورد نصًا في الفقرة التي شددت على “تعزيز الظروف التي تكفل أمن منطقة البحر الأحمر الأوسع ومواجهة التهديدات الأمنية العابرة للحدود من قبل المنظمات الإرهابية والمتطرفة”.
هذا التضمين، وإن بدا فنيًا ضمن سياق دبلوماسي، يعكس نقلة نوعية في التفكير الأمريكي والخليجي تجاه البحر الأحمر، باعتباره فضاءً استراتيجياً يجب عزله عن أية أنشطة لجماعات إرهابية أو قوى غير نظامية يمكن أن تهدد الملاحة والتجارة الدولية.
في هذا السياق، جاءت تصريحات المستشار الأمريكي مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للشؤون الإفريقية، لتكمل ذات الرؤية. ففي حواراته الإعلامية الأخيرة شدد على أن النزاع في السودان يشكل تهديدًا مباشرًا للملاحة والأمن في البحر الأحمر، وأن أي تسوية سياسية لا بد أن تراعي إعادة ترتيب الأوضاع في هذا الحوض الحيوي بما يضمن مصالح القوى الإقليمية والدولية.
وذكر بولس أن الولايات المتحدة تعمل على رؤية شاملة للبحر الأحمر تربط الأمن الإنساني والسياسي بالاقتصاد الأزرق والتنمية الساحلية، وأن استقرار السودان هو شرط أساسي لضمان حرية الملاحة واستقرار الضفة الإفريقية من البحر الأحمر في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني المتنامي.
من هذا المنطلق، يمكن قراءة تمارين الموج الأحمر 8 ضمن ذات الإطار الجيو–استراتيجي الذي تنظر به واشنطن وشركاؤها الخليجيون إلى مستقبل البحر الأحمر. فالمناورات، وإن كانت ذات طابع تدريبي عسكري، إلا أنها في جوهرها رسالة تنفيذية لمضامين بيان الرباعية، وإشارة إلى أنّ الأمن البحري بات محورًا مركزيًا في أي حلّ سياسي للحرب في السودان.
فالولايات المتحدة والرباعية ترى أن إنهاء الحرب لا يقتصر على وقف إطلاق النار أو ترتيبات الحكم المدني، بل يتطلب أيضًا تأمين الشريط الساحلي والممرات البحرية السودانية، ومنع استخدامها من قبل المليشيات أو الجماعات المتطرفة أو القوى الأجنبية. ومن هنا يتقاطع الحل الأمني مع الحل السياسي، ويتحوّل البحر الأحمر إلى منصة ضغطٍ وإسنادٍ في آن واحد؛ ضغطٍ على الأطراف المتحاربة للالتزام بالحل السلمي، وإسنادٍ للسودان كدولة ساحلية ذات دورٍ محوري في أمن الإقليم.
إن قراءة الموقف الأمريكي–الخليجي في ضوء المناورات الأخيرة تُظهر بوضوح أن السودان، رغم جراح الحرب، ما يزال أحد الأعمدة الجغرافية والأمنية في منظومة البحر الأحمر. وبالتالي فإن تعزيز حضوره العسكري والبحري المنظَّم هو جزء من رؤية أوسع للحل، تتقاطع فيها السياسة مع الأمن والبحر مع البر.
الفوائد المنتظرة للسودان من المشاركة
لا شك في أن مثل هذا النوع من المناورات و التمارين يكسب المشاركين فيه فوائد و اضافات ايجابية، و بالنسبة للسودان فإن الفوائد المنتظرة من المشاركة تتمثل في الآتي:
▪️اكتساب خبرة تشغيلية مباشرة في مجالات الحرب الإلكترونية، والمراقبة الساحلية، والعمليات المشتركة (الزيارة والتفتيش والتأمين)
“Visit, Board Search, and Seizure” ( VBSS).
▪️تطوير التعاون الفني واللوجستي مع البحرية السعودية ومراكز الصيانة والتدريب.
تحسين إجراءات الأمن البحري الوطني وفقًا ل(معايير الكود الدولي لأمن السفن و المرافق)
International Ship and Port Facility” Security Code”
(ISPS Code).
▪️فتح فرص استثمار وشراكات في مجالات الصناعات البحرية والصيانة والإمداد، ضمن مبادرات رؤية السعودية 2030 ومشروعات توطين الصناعات الدفاعية.
▪️استعادة الوجود السوداني المؤسسي في منظومات البحر الأحمر بعد سنوات من الغياب أو الضعف الدبلوماسي والعسكري.
ضرورة توسيع المشاركة السودانية مستقبلًا
ينبغي ألا تقتصر مشاركة السودان على وحدات رمزية، بل من الأفضل أن تمتد مستقبلًا لتشمل:
▪️وحدات استطلاع ساحلية ومجموعة من الزوارق السريعة المجهزة بأنظمة اتصال تكتيكي متقدمة.
▪️ضباط ارتباط دائمين في غرفة عمليات الأسطول الغربي بجدة.
_برامج تبادل معلومات استخبارية بحرية لمكافحة التهريب والجريمة المنظمة.
▪️تدريب فرق تفتيش مشتركة (VBSS) على السفن التجارية والموانئ السودانية.
هذه الخطوات ستُسهم في نقل الخبرة وبناء كوادر وطنية مؤهلة لإدارة أمن البحر الأحمر بالتكامل مع الشركاء.
الرؤى والأهداف الاستراتيجية والتكتيكية للسودان
من جانب آخر، فإنه يجب على القيادة السياسية و العسكرية في السودان أن تستصحب معها رؤى و غايات و اهداف استراتيجية تعمل على بلورتها و صياغتها فى اهداف تشغيلية و تكتيكية و تسعى لتحقيقها، منها:
على المستوى الاستراتيجي:
تحويل السودان إلى مركز إقليمي للأمن البحري واللوجستيات في الجزء الغربي من البحر الأحمر.
▪️إعادة هيكلة القوات البحرية السودانية على أساس المهام الحديثة (الردع، الرصد، الحماية، الإنقاذ).
▪️الانضمام الفاعل لمبادرات أمن البحر الأحمر بقيادة السعودية، مع طرح رؤية سودانية متكاملة للأمن والتنمية البحرية.
▪️توظيف المناورات في بناء الثقة الدولية بعد الحرب، بما يدعم جهود رفع العقوبات واستعادة الشراكات الاقتصادية والعسكرية.
على المستوى التكتيكي:
▪️تحسين جاهزية وحدات الاستطلاع الساحلي عبر أنظمة رادارية وكهروبصرية تربطها بشبكة قيادة وسيطرة مركزية في بورتسودان.
▪️إدخال منظومات تدريب على الحرب الإلكترونية البحرية بالتعاون مع السعودية ومصر.
▪️تعزيز قدرات الإنقاذ البحري والتدخل السريع في حالات الطوارئ، كجزء من خطة تأمين السواحل والموانئ.
▪️تنشيط العمل المشترك مع الجمارك وخفر السواحل والشرطة البحرية لقطع شبكات التهريب والاتجار بالبشر.
إن مناورات “الموج الأحمر 8” ليست مجرد حدث عسكري روتيني، بل رسالة إستراتيجية تعبّر عن وعي متنامٍ بأهمية البحر الأحمر كعمق أمني واقتصادي مشترك لدول المنطقة.
أما بالنسبة للسودان، فإن الانخراط الجاد والمنظم في هذه المبادرات يمثل فرصة لإعادة بناء قدراته البحرية، واستعادة حضوره في الإقليم، وتأكيد أن الجيش السوداني باقٍ كمؤسسة وطنية فاعلة قادرة على حماية مصالح البلاد والمساهمة في أمن البحر الأحمر والعالم، وكلما اتسع الوعي الوطني بهذه الحقيقة، اقترب السودان أكثر من موقعه الطبيعي، كحارسٍ لبوابة البحر الأحمر وأمنه ومصالحه.
الاثنين 10 نوفمبر 2025م



