*فاطمة أحمد إبراهيم ماذا تبقى من سحرها ما بين الاجندة الثورية واجندة الليبرالية النسوية الجديدة (٣/٢) ياسر عرمان*

الكثيرون غمروني بفضلهم بالكتابة والاتصال معلقين حول الجزء الاول من المقال عن فاطمة السمحة والمتسامحة وأضافوا ما عندهم وهم من مختلف المشارب الفكرية والسياسية وبعضهم من الأكاديميين، تناول بعضهم أحدى قضايا المقال الرئيسية حول أجندة الحركة النسائية الثورية التقليدية والأجندة الليبرالية النسوية الجديدة وهي قضية تستحق التناول على نار هادئة، وسوف أطرح عما قريب تجربتنا في بناء السلام والمفاوضات وتأثير أجندة السلام الليبرالية الجديدة والمتغيرات التي تطرحها الحرب الراهنة والطروحات الجديدة في قضايا السلام وخصوصاً من الادارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، والتي بالفعل غادرت أجندة السلام الليبرالية الجديدة لمربع آخر يستحق التناول.
تناولي لقضية أجندة الحركة النسائية التقليدية التي على نحو رئيسي قادتها فاطمة أحمد إبراهيم مع أخريات والأجندة الليبرالية النسوية الجديدة، لا املك ولا يملك غيري القول الفصل فيها ومن الضروري الدفع بهذه القضايا للامام وتناولها بحيوية حتى لا يصبح عملنا السياسي على طريقة (سرجي مرجي انت حكيم ولا تمرجي) كما عبر ذات مرة المبدع فارع القامة محجوب شريف.
إننا نحتاج لإجلاء الفكر بمراجعات عميقة ودون انغلاق وصمدية أو سلفية حتى نستنشق هواء جديداً، لان السودان لن يعود كما كان مرة أخرى بعد هذه الحرب اللعينة، والحروب هي اكبر قابلة لولادة المجتمعات هبوطاً وصعوداً. إن هذه الحرب قد دمرت حصون المجتمع المدني وربما اتجهت بنا نحو دولة يتحدث فيها الناس على مقياس طول بنادقهم.

اتضح لي مجدداً من ردود الفعل عن الجزء الأول كم يحب الناس من مختلف المشارب فاطمة وان مكانتها لا تزال شاغرة رغم ان حواء الحركة النسائية منتجة وولودة وعامرة بالطاقات والإيمان والتضحيات ولكن فاطمة كانت عالية الكعب.

في عام ١٩٨٠ كنت أمامها للمرة الأولى في مكتبة مهيرة وزرت منزلها وحكت لي عن ايام ١٩ يوليو الحالكات ورأيت جسارتها وهي تحكي عندما جاء (مجروس) الجيش والعساكر لمنزلها واقتلعت بالقوة وهي تحمل طفلها الوحيد وتحدت نميري ورفضت ان تساوم او ان تسترحم لأجل زوجها ودخلت السجن، وحكت عن الشفيع وموقفه من ١٩ يوليو وزيارة الاستاذ غازي سليمان له صبيحة ذاك اليوم والبيان وامتد نقاشي معها سنوات طويلة ولم تبدل فاطمة تبديلا، وهانذا في صيف أغسطس ٢٠١٧ بمطار هيثرو في موكب حزين أمام جسدها المسجى نودع ركبها لبلاد أحبتها، وكتب أخاها المبدع الكبير صلاح أحمد إبراهيم عن تلك البلاد ( الطير المهاجر) ولو تعب منك جناح في السرعة زيد، ولآل أحمد إبراهيم في خدمة الشعب عرق ودماء لن تنسى، كما كتب المبدع العظيم الطيب صالح في رثاء أخاها (صلاح اخو فاطمة) واختار عنوان لا يوجد عنوان افضل منه للحديث عن صلاح احمد إبراهيم وهو الذي طالما اعتز باخته التي تشرف قائلاً “أنا صلاح اخو فاطمة”.

غابت فاطمة سنوات عديدة من الخرطوم ولم تغب عن خاطر الناس فخيرها محفوظ وما زالت في الذاكرة الجمعية وفي البال لم تنسى كأنها لم تكن، وما ان وصلت جنازتها للخرطوم حتي أشعلت الهتافات والتاريخ مرة أخرى وخرج الناس لاستقبالها ووداعها كانها لم تغب اصلاً وهكذا سحر فاطمة لا ينقضي، فقد أشاعت النور في سود ليالي التمييز ضد المرأة وكانت رائدة في زراعة الوعي في حقول النساء والمجتمع.

بعض قضايا الليبرالية النسوية الجديدة شربت من مياه قديمة للفكر الثوري التقليدي للحركة النسائية الذي ساهمت في طرحه فاطمة منذ وقت مبكر، على سبيل المثال الغاء الفوارق الاجتماعية والحواجز الثقافية ودمج النساء في البنية الاقتصادية والاجر المتساوي ورفع المهارات والدعم المؤسسي والحقوق القانونية والدستورية، وما عرف لاحقاً بجندرة القوانين والدستور والتدريب، وتعزيز برامج دمج النساء عموماً.

هنالك قضايا طرحتها الليبرالية النسوية الجديدة بعضها لم يجد القبول والاتفاق الكامل من الفكر الثوري التقليدي مثل طرح قضايا المثلية الجنسية وابعادها الثقافية والدينية المعقدة وقضايا استقلالية الجسد وبرامج النساء الخاصة دون طرح متكامل لقضية تحرير المجتمعات، وكذلك القضايا المرتبطة بالمجتمعات الغربية وتعميمها على مجتمعات لها خصائص تطورها التي تميزها فيما يشبه دمج فوقي وتعميم اجتماعي، لا تزال هذه القضايا تشعل منصات النقاش في بلدان الجنوب، ونذكر النقاش الذي دار بين اوهرو كنياتا وباراك اوباما وكذلك آراء يوري موسيفيني حول حقوق المثلين في أفريقيا.

ان التطور الرقمي المذهل الذي كاد ان يلغي الخصوصية الانسانية وبرنامج الذكاء الاصطناعي العجيبة وتأثيرها على مستقبل الحياة والعلاقات الاجتماعية وطرح أجندة الليبرالية النسوية الجديدة وما بعد الليبرالية الجديدة، حتى ان الحياة البشرية لم تعد تصنف برجل وأمرأة وتعدتها لقضايا ومساواة النوع وتنوعه ومسؤولية الدولة في الغاء الحواجز الهيكلية والحرية الفردية الجنسانية وإلغاء تقسيم النوع والأدوار التقليدية للأسرة، والآن تتعدى هذه الاطروحات الليبرالية النسوية الجديدة نفسها وتطرح قضايا النوع الاجتماعي لا البيولوجي الاسري والجنس الثالث كما تتطرح قضايا علاقات السلطة وتغيير القوانين وقبول الجنس الثالث. يتشابك كل ذلك مع قضايا النوع والطبقة والعرق والانتماء الوطني وطرح قضايا الابعاد الرجولية وقضايا الهيمنة وعلاقة ذلك بالمجتمعات الغربية والتضارب الذي يحدثه في بلدان الجنوب وقراءة كل ذلك مع الأدوار التي قامت بها الحركة النسائية في السودان بقيادة رائدات مثل فاطمة أحمد إبراهيم.

ان هنالك اصوات متصاعدة تنتقد الليبرالية النسوية الجديدة وما بعدها في تجاهلها للمحتوى العالمي في الفروق الثقافية على المستوى العالمي والوطني.

الانتقال من الليبرالية النسوية الجديدة وما بعدها احدث نقلة نوعية وتقلبات وتحديات على الحركة النسائية السودانية وهي جديرة بالاهتمام سيما الاطروحات التي تتعدى العلاقات بين المرأة والرجل إلى تنوع وتعددية النوع والجنس الثالث، ان الحركة النسائية السودانية المعاصرة تحتاج لنقاش عميق لضبط اجندتها الوطنية اخذه في الاعتبار تجربة فاطمة أحمد إبراهيم وقدرتها في المصالحة بين ما هو وطني وعالمي في ظروف كانت صعبة ومعقدة وفي بداية فجر وصحو الحركة النسائية، ان تجربتها ورفيقاتها لا زالت ملهمة وقد استلمن الراية من مناضلات ثورة ١٩٢٤ وفي مقدمتهم المناضلة العظيمة حاجة العازة محمد عبدالله زوجة الزعيم علي عبد اللطيف وهن من ابتكرن العمل السياسي الحديث وشاركن في الاحتجاجات وقمن بتهديم الحواجز، وقد اجرت الاستاذة الراحلة محاسن عبد العال مقابلات مهمة مع حاجة العازة محمد عبدالله في مجلة (صوت المرأة).

أجندة الليبرالية النسوية الجديدة وما بعدها ارتبطت باقتصاد السوق الذي ينحاز للعائد والمنفعة الاقتصادية أكثر من الضمانات الاجتماعية مما يحافظ على التمييز ضد النساء وإمكانية معالجة قضاياهم الواسعة مما يطرح النضال الأوسع من أجل التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وهو يعدينا مرة أخرى لمناقشة اطروحات الحركة النسائية الثورية التقليدية التي شاركت فيها فاطمة.

بعد ١٩ يوليو ١٩٧١ برزت تضاريس سياسية جديدة في ظل الشمولية وخفتت أصوات قوى التقدم ما عدا قلة برزت على السطح فكانت فاطمة أحمد إبراهيم والخاتم عدلان ومحجوب شريف ومحمد وردي وأخرين من القلة هم الناطقين الرسميين دون خوف أو وجل كُل بادواته ولفاطمة فضل كبير بعد ان تدلى من هم في المقدمة من على اعواد المشانق.

في اسمرا تلقيت اتصالاً هاتفياً من لندن وكانت الاستاذة فاطمة وقد سمعت ان الناس جوعى في اقليم بحر الغزال وابدت رغبتها في زيارة بحر الغزال، ونقلت طلبها للدكتور جون قرنق والذي سألني ألن يكون ذلك صعباً عليها؟ وحدثته عن التاريخ الطويل لفاطمة ورحب بالزيارة وقمنا بالترتيبات اللازمة واعتقد ان ذلك كان في عام ١٩٩٦-١٩٩٧، وقامت فاطمة بزيارة بحر الغزال في ظروف الحرب والمجاعة وقد كان حدثاً فريداً من أمرأة سلاحها في عزيمتها استبقت في ذلك كل قادة التجمع الوطني الديمقراطي، وبذلت فاطمة جهداً كبيراً في ازالة الحواجز امام النساء للوصول لقيادة التجمع الوطني الديمقراطي، وسوف أتطرق لها بالتفصيل لاحقاً. في زيارتها لبحر الغزال مع اخرين حصدت انتباه الإعلام والقنوات البريطانية والعربية وتحدثت بلغة انجليزية رصينة وبوضوح سياسي ملفت للنظر.
في اجتماعات قيادة التجمع الوطني الديمقراطي في القاهرة وأسمرا طرحت قضايا تمثيل النساء بقوة، وفي اسمرا خاطبت السيدين الميرغني والمهدي ودكتور قرنق وقلبت الطاولة في جرأة قائلة …

نواصل
١١ نوفمبر ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole