*حركة سودانية أم حركات وطنية: تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان” للدكتور عبدالله علي إبراهيم*

يُمثِّل كتاب “حركة سودانية أم حركات وطنية” للدكتور عبدالله علي إبراهيم مشروعاً نقدياً طموحاً يتحدى الرواية التاريخية السائدة حول تكون الدولة السودانية وطبيعة الصراع فيها. لا يكتفي العمل بتسليط الضوء على “ما أهمله التاريخ” عن جنوب السودان، بل يقدم تحليلاً جذرياً لأسس المشروع الوطني السوداني ذاته، مُقدِّماً قراءةً تُعيد تقييم التاريخ السياسي السوداني من منظور يعيد الاعتبار للتعددية واللامركزية.

◼️أولاً: الإطار النظري والمنهجي: تفكيك التاريخ الأحادي

ينطلق الدكتور عبدالله علي إبراهيم من منظور نقدي يرفض “الرواية الوطنية الأحادية” التي هيمنت على كتابة التاريخ السوداني، والتي صوّرت السودان ككيان متجانس تُدار من مركزه في الشمال. يعتمد المؤلف منهجية “تاريخ الأفكار” السياسية وتحليل الخطاب، مفتشاً في الأرشيف والوثائق والخطابات السياسية عن الأصوات المهمشة والبدائل التاريخية التي قُمعت أو جرى تهميشها. هذا المنهج لا يهدف فقط إلى “إضافة” فصل عن الجنوب، بل إلى إعادة كتابة التاريخ السوداني برمته من خلال الاعتراف بوجود “حركات وطنية” متعددة بدلاً من “حركة سودانية” واحدة.

◼️ثانياً: الأطروحة المركزية: من الحركة السودانية إلى الحركات الوطنية

يحاجج الكتاب بأن المشروع الوطني السوداني الذي قاد إلى الاستقلال عام 1956 لم يكن تعبيراً عن إرادة وطنية موحدة، بل كان يمثل في جوهره “حركة سودانية” ذات نزعة مركزية هيمن عليها النخب الشمالية. في المقابل، كانت هناك “حركات وطنية” أخرى، خاصة في جنوب السودان، تمتعت برؤى مغايرة للدولة والهوية، لكنها قوبلت بالإقصاء والعنف. يشير العنوان الاستفهامي “حركة سودانية أم حركات وطنية؟” إلى جوهر هذا الجدل، مؤكداً أن إخفاق الدولة السودانية في تحقيق الاستقرار والوحدة ينبع من رفضها الاعتراف بهذا التعدد الجوهري في الرؤى الوطنية.

◼️ثالثاً: تحليل الخطاب السياسي والتأسيس الدستوري

يحلل الكتاب بعمق الخطابات والتجارب الدستورية التي شكلت الدولة السودانية، مثل:

1. دستور 1973: ويناقش كيف أنه، رغم ادعائه الشمولية، كرّس هيمنة الشمال وأقصى قضايا الجنوب والمناطق المهمشة الأخرى.
2. اتفاقية أديس أبابا 1972: يقدم الكتاب قراءة نقدية لهذه الاتفاقية لا كحل نهائي، بل كترتيب هش لم يعالج جذور الإشكالية في مفهوم الدولة المركزية ذاتها، مما مهّد لانفجار الحرب الأهلية مرة أخرى.
3. خطاب “الأمة العربية الإسلامية”: يقوم المؤلف بتفكيك هذا الخطاب وكيفية استخدامه كأداة لإضفاء الشرعية على هيمنة المركز، وإقصاء الهويات والثقافات غير العربية وغير الإسلامية من الحيز الوطني.

◼️رابعاً: إسقاطات على الحاضر وتفكيك ثنائية الشمال والجنوب

يتجاوز الكتاب التحليل التاريخي الخالص ليربط الماضي بالحاضر، مبرزاً كيف أن إخفاق تأسيس دولة تعترف بالتعددية كان العامل الأساسي وراء الحروب الأهلية وانفصال الجنوب في نهاية المطاف. كما أن الكتاب يحذر من تكرار نفس النموذج المركزي مع المناطق المهمشة الأخرى في السودان (كدارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق)، مما يجعله عملاً ذا راهنية سياسية عالية. وهو بذلك لا يقتصر على ثنائية الشمال والجنوب، بل يفتح الباب لفهم الصراعات في السودان كنتاج لبنية دولة مركزية قمعية.

🔸️خامساً: تقييم نقدي وإسهام معرفي

يُعد كتاب الدكتور عبدالله علي إبراهيم إسهاماً محورياً للأسباب التالية:

1. قلب الطاولة على التاريخ الرسمي: فهو يقدم تاريخاً “من الأسفل” ومن هوامش الدولة، معيداً الاعتبار للروايات المضادة.
2. التأسيس لوعي سياسي جديد: يقدم الكتاب أدوات تحليلية لفهم أزمات السودان المتكررة، مشيراً إلى أن الحل لا يكمن في الإصلاحات السطحية، بل في إعادة تخيل فكرة “السودان” نفسها كدولة لامركزية تعدديّة.
3. الجرأة الأكاديمية: في تحديه لمسلّمات الفكر السياسي السوداني السائد وقراءته الجذرية للتراث الدستوري والخطابي.

مع ذلك، قد يوجه للكتاب أن أطروحته المركزية، رغم قوتها، قد تبدو وكأنها تبسيط أحياناً للتعقيدات التاريخية، أو أن تركيزه على النخب الفكرية والسياسية قد يقلل من حظوظ تحليل العوامل الاقتصادية والاجتماعية الأوسع.

✒️الخلاصة

في الختام، يمثل كتاب “حركة سودانية أم حركات وطنية” علامة فارقة في التأريخ والنقد السياسي السوداني. إنه ليس مجرد تصحيح لأخطاء التاريخ، بل هو محاولة جريئة لفهم “الخطيئة الأصلية” لتأسيس الدولة السودانية على أساس إقصائي. الكتاب يدعو، بشكل ضمني، إلى ضرورة انطلاق أي مشروع مستقبلي للسودان من الاعتراف بأن “الوطنية” ليست حكراً على رؤية واحدة، وأن استعادة السودان (ما بعد الانفصال) لوحدته الداخلية واستقراره رهينان باعتناق فكرة “الحركات الوطنية” المتعددة والمتساوية، التي طالما نادى بها الدكتور عبدالله علي إبراهيم في هذا العمل المرجعي.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole