إهداء ضد الذاكرة المثقوبة ولوقف عدوان مائة عام على ثورة ١٩٢٤:
(إلى المناضلة الحاجة نفيسة سرور أحمد، عضوة جمعية اللواء الأبيض، إليها وقد غضب أهلها حين انضمّت إلى جمعية اللواء الأبيض، وإلى أخيها عبد العزيز الذي لم يغضب منها، لأنه كان “يفهم وفاهم” على حدّ قولها)، وإلى الشهيد ثابت عبد الرحيم الذي أتى من شندي لزيارتها قبل إعدامه.
(وإلى طلبة الكلية الحربية الذين خرجوا في مظاهرة شاهرين سلاحهم وهتافهم، وتم سجنهم في الوابورات بحري لمدة شهر في باخرة إنجليزية وأخرى مصرية، ثم سيقوا إلى سجن كوبر واعتُقل كل ثلاثة منهم في زنزانة، وخلّدهم شيخ المبدعين إبراهيم العبادي في أغنية شهيرة حرّمها الإنجليز: يا حليل الطير الرحّل لو قريب في زحل التلامذة السكنوا البحر).
كل بلد لها ثروتان:
ثروة يصنعها الإنسان وتاريخه الذي يشكّله عبر الحقب فوق الأرض، وثروة تشكّلها الأرض التي يرسخ عليها قدميه. والأرض ليست من صنع الإنسان، بينما التاريخ الإنساني من صنعه. والشعوب التي تفرّط في تاريخها ستفرّط في أرضها ولو بعد حين. والانتقاص من التاريخ انتقاص من الأرض والجغرافيا. ومن بين أكثر الثروات التي لم نحسن استخدامها في السودان: تاريخنا.
ونحن نحتاج تاريخنا مثلما نحتاج أرضنا، بل للتاريخ والأرض روابط جدلية. ولكي نستطيع أن نوحّد بلادنا لابد أن نربط أرضنا بمراسي التاريخ؛ فالذاكرة المثقوبة لا تحيي الروابط الوطنية، والجغرافيا التي لا يسندها التاريخ والثقافة قابلة للزوال. وأخطر ما طرحته سياسات الدولة والحروب التي خاضتها في الريف أنها تجاهلت التاريخ والتنوع والإنسان، وحاولت توحيد الجغرافيا فانتقصت من الاثنين معًا. فكل جغرافيا يجب أن يسندها تاريخ لصناعة وجدان وطني مشترك.
السودان يحظى بتنوع تاريخي يمتد لما يزيد عن ثمانية آلاف عام، مما يجعله منطقة فاعلة في حضارات العالم القديم ومساهمًا رئيسيًا في تطور الحضارة الإنسانية. كما حظي السودان بتنوع معاصر داخل المليون ميل مربع التي قامت عليها الدولة الحديثة في الأول من يناير ١٩٥٦؛ إذ ضمّت تلك الدولة أكثر من (٥٧٠ قبيلة) و(أكثر من ١٣٠ لغة)، وهي لغات وليست “رطانة” كما يطلق عليها البعض، وبعضها أقدم من اللغات الحية اليوم.
وقد نبّه السير روبرت جورج هاو آخر حاكم بريطاني للسودان (١٩٤٧–١٩٥٧) لأهمية الوحدة في التنوع. ففي خطابه الوداعي في الخرطوم عشية الاستقلال، قال: إن السودانيين شعوب مختلفة في شمال البلاد وجنوبها وفي غربها وشرقها، وأن التنوع يولّد حيوية عظيمة وقد يمثل عقبة إذا أفضى إلى نزاعات مدمرة. ودعا إلى تنمية شاملة للجميع.
كان حديثه جرس إنذار مبكر أدركه شخص ملمّ بتفاصيل السودان وتضاريسه الاجتماعية، يدرك سياسة “فرّق تسد”، ويرى الاحتقان بين الشمال والجنوب. لكن قادة الحركة الوطنية لم يولوا خطابه الاهتمام الكافي وسط صراعات مراسم الوداع وتسلم السلطة.
التنوع التاريخي والمعاصر شكّل ملامح الشخصية السودانية وطبعها بطابع فريد ساهم في الحفاظ على الروابط الإنسانية رغم عجز الدولة واحتقان المجتمع وتصاعد خطاب الكراهية.
(ثورة ١٩٢٤: الأهمية والمكانة)
منذ نشأة الحركة الشعبية في ١٦ مايو ١٩٨٣، لامست الحركة الإشارة إلى أهمية ثورة ١٩٢٤. فقد أطلق جون قرنق على إحدى كتائب الجيش الشعبي اسم “كتيبة علي عبد اللطيف”، ثم حاول إنشاء وكالة أنباء باسم “علي عبد اللطيف”. كما طلب نسخة من بحث الباحثة اليابانية الدكتورة يوشيكا كوريتا عن ثورة ١٩٢٤. وقد كان لبحثها فضل إعادة الاعتبار لعلي عبد اللطيف.
بعد اتفاق نيفاشا ووصولنا الخرطوم ٢٠٠٥، أدرجتُ ثورة ١٩٢٤ في الخطاب السياسي للحركة الشعبية، وصممت ملصقات تضم علي عبد اللطيف وجون قرنق. وطلب مني د. جون قرنق إحضار اللافتة الكبيرة التي عُلّقت على واجهة فندق الهيلتون الخرطوم. وخرج قرنق لرؤيتها وكان سعيدًا بها.
وفي الذكرى الأولى لرحيله، كانت ضيفة الشرف في استاد المريخ السيدة خديجة عبد الفضيل الماظ. وفي ٢٠١٠، دشّنت حملتي للرئاسة من منزل علي عبد اللطيف وحاجة العازة محمد عبد الله في الموردة بأم درمان. وفي مدينة واو رممنا قبر الشهيد عبيد حاج الأمين.
منذ سنوات كتبت أدعو للاحتفاء بالذكرى المئوية لثورة ١٩٢٤، لأنها — في رأيي — ثورتان داخل ثورة:
1. ثورة ضد المستعمر
2. وثورة اجتماعية وثقافية ضد العنصرية وإرث تجارة الرق
بعد ثورة ديسمبر، دعوت رسميًا في لقاءات مع القيادات التنفيذية والسيادية قبل انقلاب ٢٥ أكتوبر إلى إطلاق حملة وطنية للاحتفاء بالمئوية، لأن ديسمبر امتداد طبيعي لـ١٩٢٤.
استدعاء ثورة ١٩٢٤ ليس ترفًا، بل عملية نهوض شامل لبناء مشروع وطني جديد، وربطه ببعد ومنظور تاريخي بغية الوصول إلى تقييم سليم وموضوعي لثورة ١٩٢٤، وإزالة آثار السنين وعدوان النسيان والغبش والتغبيش، والأهم عدوان البشر المقصود والمتعمد على ثورة ١٩٢٤ وقادتها. فهذه الثورة قد تحدّت التركيبة والبنية التقليدية للمجتمع السوداني، واجترحت طريقًا جديدًا في اختيار قيادتها، وفتحت كُوّة من الضوء للاحتفاء بالتنوع السوداني، ووفّرت فرصة ما للنساء وللمفاهيم الحديثة وتكوين المنظمات والعمل الجماهيري، وأسست لتقاليد سياسية جديدة، وتحدّت الفكر الموروث للطائفية والقبلية وإرث تجارة الرقيق، وانفتحت على مفاهيم المواطنة والسودانوية كمفاهيم كبيرة للبناء الوطني. وثورة ١٩٢٤ عبّرت عن المفاهيم الحديثة للقوى الاجتماعية الجديدة الصاعدة التي نشأت في خضم مؤسسات الدولة وفي وسط المتعلمين والموظفين والمثقفين الذين يتطلعون إلى بناء مجتمع حديث يقوم على مفاهيم أقرب للمدنية والمواطنة. والعمل الجماهيري السلمي خرج من معطف ثورة ١٩٢٤.
الأهمية والمكانة الحقيقية لثورة ١٩٢٤ تكمن في أنها حركة جماهيرية ذات مشروع للبناء الوطني، ذو صلة بمفاهيم المواطنة أكثر من أي مشروع آخر في ذلك الوقت. وقد عملت على تأسيس مفاهيم السودانوية، وقد رفض قادتها منذ البداية الإجابة على سؤال الانتماء القبلي، وقد حكم الاستعمار البريطاني بالجلد على كل من رفض الإجابة على هذا السؤال. والغريب أن أجهزة الدولة الوطنية لا تزال تسأل المواطنين السؤال نفسه حتى يومنا هذا بعد أكثر من ستين عامًا من خروج المستعمر من بلادنا، إنهم يشربون من الكأس نفسه. إن التأكيد على الانتماء الوطني هو ما نحتاج إليه اليوم، ولا تزال الأسئلة التي طرحتها ثورة ١٩٢٤ حاضرة، تحتاج إلى إجابة بعد مرور ما يقارب المئة عام على ثورة ١٩٢٤.
نحن على مشارف مئة عام على قيام أول حركة جماهيرية حديثة، ويا لها من حركة شديدة التعقيدات السياسية والتنظيمية. فقد كان لها امتداد عضوي في المجتمعين المدني والعسكري؛ فزعيمها مع آخرين ينتمون إلى السلك العسكري ويتحدثون بطلاقة سياسية، ولديهم اتصالات عميقة بالمجتمع المدني، وقد شكّل المدنيون الأغلبية في الصورة الفوتوغرافية التاريخية التي ضمّت قادتها. كما كان لها امتدادات في الريف والمدن، وشملت أفرع تنظيمها مدنًا هامة كالعاصمة وشندي وبورتسودان والأبيض ومدني، وقد انتشرت خلاياها في مناطق عديدة، وضمت بعض النساء والتجار والموظفين بالإضافة إلى العسكريين. وقد ساعد ظهور القطاع الحديث وأجهزة الدولة في توسع دائرة انتشارها، وبعض زعمائها كانوا يعملون في السكة الحديد والبوسطة والتلغراف.
التيار الوطني داخل القوات المسلحة المنحاز للحركة الجماهيرية ترجع جذوره إلى ثورة ١٩٢٤. فبعد القضاء على الثورة واعتقال بعض زعمائها واستشهاد بعضهم والحكم بالإعدام على بعضهم، تبقى عدد كبير من العسكريين من الأعضاء السريين لثورة ١٩٢٤ داخل قوة دفاع السودان بعد حل الأورطة المصرية ودمج قواتها في قوة دفاع السودان بقرار مباشر من البريطانيين. وبذلك انتهت ازدواجية الجيشين — ولعل ازدواجية الجيشين قضية قديمة في بلادنا.
ومعركة النهر الثانية التي قادها الملازم أول عبد الفضيل الماظ في يومي الخميس والجمعة الموافق ٢٧/٢٨ نوفمبر ١٩٢٤ قد خلّفت أثرًا عميقًا داخل وخارج قوة دفاع السودان، وقد انتشرت الأغاني والأهازيج التي مجدت الماظ وزملاءه الشهداء وثورة ١٩٢٤.
العلاقة بين المدنيين والعسكريين:
هذه العلاقة — التي تشهد تعقيدات هائلة بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ — لم تحسمها كل الثورات الماضية بإيجاد مشروع يستديم التحول المدني الديمقراطي، ويجعل المؤسسة العسكرية تطبّع علاقتها مع المجتمع المدني والحكم المدني في إطار صيغة دستورية تجعل من الجيش جيشًا مهنيًا تحت إدارة الدولة المدنية. والالتباس في العلاقة بين المدنيين والعسكريين ليس حالة سودانية فقط، بل هو حالة ذات امتدادات عالمية. ففي أوروبا مثلًا أخذت بلدان مثل إسبانيا والبرتغال واليونان عقودًا من العمل للوصول إلى صيغة ديمقراطية تنهي سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم المدني، وتنهي الانقلابات مرة واحدة وإلى الأبد. وكذلك ما تم في أمريكا اللاتينية والجنوبية من مسيرة طويلة للنضال الشاق في إنهاء الدكتاتوريات العسكرية وإقامة الحكم المدني، كما هو الحال في تشيلي والأرجنتين وكولومبيا والبرازيل والسلفادور والإكوادور وغيرها. وكذلك تجارب الكثير من البلدان الآسيوية التي خضعت لحكومات شمولية لسنوات طويلة، ولعل التجربة الكينية في العلاقة بين المدنيين والعسكريين وتوطين الديمقراطية ذات نفع لبلادنا.
لإصلاح العلاقة بين المدنيين والعسكريين في السودان، فإن ثورة ١٩٢٤ نقطة هامة ومرجعية في قبول العسكريين الكبار لثورة ١٩٢٤ بصيغة صحيحة للعلاقة بين المدنيين والعسكريين وبمشروع نهضوي أوسع. وإن الزعيم علي عبد اللطيف استحق مكانته كمفكر ومثقف عضوي ركل امتيازات السلطة، بوصفه ضابطًا في العشرينيات من القرن الماضي، حينما كانت رتبة ضابط تعني الكثير من الامتيازات، وبدلًا عنها بحث عن “مطالب الأمة” في رسالته الشهيرة.
وفي إفادة اللواء عبد اللطيف الضوء للجنة التي شكلها الرئيس جعفر نميري — وقد أخذت الروايات الشفهية لثوار ١٩٢٤ وأصدرتها في عدة أجزاء عام ١٩٧٤ تحت رئاسة الدكتور يوسف فضل والدكتور محمد إبراهيم أبو سليم — فقد ذكر اللواء المتقاعد عبد اللطيف الضوء أنه حينما التقى الملازم أول علي عبد اللطيف في يوليو ١٩٢٢، وكان هو برتبة ملازم ثانٍ، وكان علي عبد اللطيف في الإيقاف الشديد، فقد ذكر له الزعيم علي عبد اللطيف أن يبلّغ اليوزباشي أحمد عقيل ومأمور مركز كوستي بأنهم قد كوّنوا حزبًا باسم “اللواء الأبيض” برئاسته، ومعه صالح عبد القادر وعبيد حاج الأمين وحسن صالح المطبعجي، وأعطاه رسالة لعدد من العسكريين.
وعلى الرغم من أن علي عبد اللطيف عسكري، فإنه لم يحدثه عن تنظيم عسكري، بل عن حزب مدني — وهو العسكري في الوقت نفسه — مما يعني اهتمامات علي عبد اللطيف العميقة بإنشاء منظمة سياسية مدنية، وإشارته الواضحة للقادة المدنيين كقادة لذلك التنظيم. مما يعني أن ثورة ١٩٢٤ — التي لعب فيها العسكريون دورًا مميزًا — كان طابعها مدنيًا، والأكثر من ذلك أنها قامت وأسست العمل الجماهيري السلمي كأول ثورة حديثة، طبعت بميسمها ثورات السودان القادمة.
وعلى القادة العسكريين اليوم أن يأخذوا دروس الفداء والتضحية والإيثار من علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وثابت عبد الرحيم وسليمان محمد وفضل المولى وزملائهم.
تواصل التأثير العميق لثورة ١٩٢٤ على المؤسسة العسكرية، والذي ظهر واضحًا في مظاهرة طلبة الكلية الحربية الذين لبسوا “لبس خمسة” وتظاهروا وطالبوا بإطلاق سراح الزعيم علي عبد اللطيف، وقاموا بزيارته في السجن وزيارة منزله، والتقوا بزوجته حاجة العازة محمد عبد الله، التي نصحتها والدتها — كما ورد في إحدى الروايات — بالخروج لمقابلة طلبة الكلية ومشاركتهم بالزغاريد. ولقد كانت مشاركتها أول مشاركة نسائية في نضالنا الحديث في العمل الجماهيري. ولقد ضم تنظيم ثورة ١٩٢٤ عددًا من النساء بين صفوفه.
وبعد وساطة كبار الزعماء آنذاك، تخلّى طلبة الكلية الحربية عن استعدادهم، وتم تجريدهم وإيداعهم السجن في وابور عائم ببحري عند منطقة الوابورات. وخلّدهم العبادي في قصيدة كانت تُغنّى في حفلات الأعراس ضد رغبة الإنجليز، وتقول إحدى أبياتها:
“يا حليل الطير الرحّل لو قريب في زُحل… التلامذة السكنوا البحر”
وهم تلاميذ الكلية الحربية.
وقد استفادت التنظيمات الوطنية التي انحازت للثورات السودانية في أكتوبر ١٩٦٤ وأبريل ١٩٨٥ من إرث ثورة ١٩٢٤ في العمل السلمي وانحياز العسكريين للثورات.
وكما قال تاج السر الحسن: “والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة”، فقد شرب دُجى اليوم من نجيمات ١٩٢٤.
الحاجة نفيسة سرور أحمد
إفادات هامة في مساهمة النساء والعلاقة مع العسكريين:
في إفادتها أمام لجنة البروفسور يوسف فضل، الواردة ضمن الإفادات المنشورة من تلك اللجنة في عام ١٩٧٤ بمناسبة مرور (٥٠) عامًا على ثورة ١٩٢٤، وعلى الرغم من مضي وقت ليس بالقصير، إلا أن الحاجة نفيسة سرور أحمد وزملاءها من ثوار ١٩٢٤ أدلوا بإفادات مثيرة للانتباه وعميقة المحتوى في فهم وتقييم ثورة ١٩٢٤ كرائدة تأهيل نظري وعملي في رسم وفتح مجاري العمل الجماهيري المدني السلمي. وتُعتبر — من وجهة نظري — ثورة ١٩٢٤ هي ثورة المقاومة المدنية الأولى، وما أعقبها من ثورات وانتفاضات جماهيرية، سيما في أكتوبر ١٩٦٤ وأبريل ١٩٨٥ وديسمبر ٢٠١٨، تدين بالفضل لتلك الثورة، رغم أن المؤرخين والمثقفين والقوى السياسية والذين تصدّوا للعمل المدني المقاوم لم ينتبهوا أو أغفلوا تأثير ١٩٢٤ على العمل السلمي المدني وحركة المقاومة الجماهيرية.
وربما أيضًا يصح القول إن أول مقاومة عسكرية داخل المدن — وفي العاصمة تحديدًا — هي معركة النهر الثانية التي قادها الملازم أول عبد الفضيل الماظ في نوفمبر ١٩٢٤.
قالت الحاجة نفيسة سرور إن إدريس عبد الحي جاءها مع جماعة، وكلّفوها بخياطة العلم الذي ستتخذه جمعية اللواء الأبيض شعارًا لها، وطلبوا منها إجراءات احترازية حتى لا يعلم أحد بذلك، لدرجة أن والدتها تركت لها البيت وأكملت المهمة عند منتصف الليل أو عند الواحدة صباحًا. وذكرت أنها كانت تجتمع مع حاجة العازة محمد عبد الله وبخيتة أم عبد الحميد خير السيد وأخريات، وأنهم كانوا يسعون لقلب الحكومة. وذكرت دور الطلبة ومجيئهم لاجتماع في بيت إدريس عبد الحي في الخرطوم بالقرب من منزل علي عبد اللطيف، وهذا يدل على أثر حركة ١٩٢٤ في قطاع الطلاب وفي بدايات بلورة الوعي الوطني داخل حركة الطلبة الحديثة.
وذكرت في الإفادة نفسها أن أحد أفراد المخابرات أراد اعتقالها، لكن مدير المخابرات الإنجليزي رفض اعتقال النساء، ولعلهم كانوا يدركون حساسية اعتقال النساء. وذكرت في إفادتها المهمة أن الشهيد ثابت عبد الرحيم، الضابط في قوة دفاع السودان وعضو التنظيم السري لحركة ١٩٢٤، جاء من شندي ليقول لها: حمدًا لله على السلامة لأنها لم تُعتقل مع علي عبد اللطيف. وهذا يعني ويؤكد الترابط والتنظيم والمعرفة بين أعضاء التنظيم المدنيين والعسكريين، واهتمامهم ببعضهم البعض، والدور المفتاحي الذي لعبه الزعيم علي عبد اللطيف الذي يمثل الرابط بين المدنيين والعسكريين، ووضوح رؤيته السياسية. وطوبى لروح الزعيم علي عبد اللطيف بعد مئة عام، ولمئة عام آتية، وطوبى للسودانوية التي تجمع ولا تفرق.
ذكرت الحاجة نفيسة أن المؤيدين لثورة ١٩٢٤ كُثُر، والخائفين كُثُر، وأن المظاهرة كان فيها الكثير ممن خرجن. ومن المهم أيضًا إدراك بصمات ثورة ١٩٢٤ في التكوين الجنيني للحركة النسائية الحديثة. وسبق للأستاذة الراحلة محاسن عبد العال أن أجرت مقابلات مع حاجة العازة محمد عبد الله لمجلة صوت المرأة التي كان يصدرها الاتحاد النسائي بقيادة الرائدة فاطمة أحمد إبراهيم. كل ذلك لم يكن مصادفة، بل لأن لثورة ١٩٢٤ دورًا في الصحوة المبكرة للحركة النسائية السودانية الحديثة، كما أن مشاركة النساء قد تشكلت ملامحها في تلك الثورة. وربما جاز القول إن ثورة ١٩٢٤ أكثر عمقًا من حركة مؤتمر الخريجين، وإنها نشأت بالكامل خارج البنى والتكوينات التقليدية، وتميزت عزيمتها وتضحياتها بالجسارة والصلابة والجرأة في تكوين منظمة حديثة بديلة للقيادات والتكوينات التقليدية.
تذكرت الحاجة نفيسة — بصعوبة — بعض رفيقاتها مثل بتول عبد النور، وتحدثت عن حسن شريف وعبيد حاج الأمين وعنتر من نمرة ٣ وحامد حسين ومزمل علي دينار، وذكرت أنهم لم يكونوا خائفين وكتموا السر. وقالت:
«الحق ما كنا بنخاف… أصلو السودانيين شجعان من زمان، لكن هدفنا حكومتنا تتغير»،
وهو نفس هدف المقاومة اليوم. إن البذور التي زُرعت قبل مئة عام تنمو في الحقول: نساء وطلاب وموظفون وتجار وعسكريون ومفاهيم وحداثة ووطنية وتنظيم. إن حركة ١٩٢٤ كانت حركة للاستنارة توسلت بمفاهيم حديثة ولم تلجأ للبنى التقليدية، واستخدمت خطابًا جديدًا في إرساء دعائم المقاومة. إنها كانت حركة للوطنيين والثوار، ولم تكن حركة للمنبتين. بل إن المنبتين الحقيقيين هم الذين قاموا بالمحاولة البائسة واليائسة لدفن ثورة ١٩٢٤ وإهالة التراب على تاريخها وتراثها الوطني المجيد والفريد. وقد آن الأوان — ولو بعد مئة عام — أن نزيل العدوان الذي استمر على مدى قرن كامل عن ثورة ١٩٢٤، وأن تدخل هذه الثورة المجيدة في المجرى الرئيسي للذاكرة الوطنية والاعتراف بفضلها وعبقريتها وتأثيرها غير المنكور وغير المذكور في حركة النضال الوطني الحديث.
وفي عبارات مؤثرة قالت الحاجة نفيسة سرور عن الشهيد ثابت عبد الرحيم:
«ثابت وجماعتو كانوا بعملوا اجتماعات في شندي، وثابت حينما جاء للخرطوم جا يعني خلاص متسلح للموت… عارف نفسو يعني. يعني هم التلاتة الانضربوا: سليمان وثابت وحسن فضل المولى».
ومعلوم أن شندي قد شهدت مظاهرات جماهيرية، وتم اعتقال الشيخ الطيب بابكر والد الأستاذ التجاني الطيب بابكر المناضل المعروف. وإذا أخذنا صعوبة الاتصال والعمل التنظيمي قبل مئة عام مقارنة بيومنا هذا، لأدركنا مدى تقدم وحيوية جماعة اللواء الأبيض. وشهادة الحاجة نفيسة — أولًا لأنها امرأة قامت بما قامت به قبل مئة عام، وثانيًا لأن حديثها المؤثر يدخل شغاف القلب — سيما حديثها عن تشتت حركة ١٩٢٤ بعد هزيمتها، وعن طلبة الكلية الحربية، وإصرار النساء التابعات لثورة ١٩٢٤ على زيارتهم في السجن وجمع الأشياء لهم حتى أُفرج عنهم، وسافر بعضهم إلى مصر. كل تلك إشارات مهمة عن الأثر السياسي والاجتماعي والتنظيمي لثورة ١٩٢٤.
وقد أكدت أن الاجتماعات السرية لم تكن تتسرب للمخابرات البريطانية، وهذا يعكس صميمية الانتماء داخل صفوف الحركة، وذلك في وقت صعب وبدايات العمل التنظيمي والتأمين.
وذكرت الحاجة نفيسة أن الاجتماعات لم تكن بحليفة أو أداء قسم، ولكن «على حسب الضمائر»، وهذا أيضًا يلقي أضواء كاشفة على الحداثوية والاستنارة في تنظيم ١٩٢٤. وقد اشتكت الحاجة نفيسة من تجاهل الحكومات الوطنية لثورة ١٩٢٤.
ومن المهم التساؤل — في يومنا هذا — عن دوافع الصمت حيال ثورة ١٩٢٤: هل هي سياسية أم عنصرية أم الاثنان معًا؟ ولماذا بُذلت محاولات لتغييب ثورة ١٩٢٤ عن المجرى الرئيسي للتاريخ الوطني؟ ولماذا اكتفينا بالنظرة السطحية لها؟ ولماذا لم تدخل كراسات المدارس؟ ولماذا لم يتضمنها مشروعنا الوطني القديم أو الجديد منذ عام ١٩٥٦ وحتى قبله؟ إن ثورة ١٩٢٤ أعمق وأقرب إلى مفاهيم المواطنة والتنوع السوداني من حركة مؤتمر الخريجين التي انتزعت الاستقلال من الاستعمار البريطاني.
ذكرت الحاجة نفيسة — بعد خمسين عامًا — أنها حينما تتذكر ثورة ١٩٢٤:
«تجينا صدمة… وعشان ما كان في نتيجة… ويعني الزعل شديد… عشان الناس يئسوا… كل حد راح في حالو… يعني دا السبب الخلّانا زعلنا».
وإلى روح المناضلة الكبيرة الحاجة نفيسة نقول — بعد ما يقارب المئة عام —:
لا تحزني، لم يمضِ كل شخص في طريقه، وإن الطريق ما زال سالكًا، وهنالك نتيجة وبصمات لما تم في ١٩٢٤ حتى مجيء ثورة ديسمبر.
ذكرت حاجة نفيسة أن السبب المباشر لثورة ١٩٢٤ هو المطالبة بخروج الإنجليز والتغيير، فالإنجليز قد خرجوا، أما التغيير فهو العبد والمعبود والمعبد، ولابد منه ولو بعد مئة عام. وأجيال اليوم تبعث بوافر الحب والشكر لجيل الحاجة نفيسة سرور وثوار ١٩٢٤ وتردد أهزوجتهم:
(يا دولة مالك لي عزالك زهجنا منك روحي في حالك – يا دولة مالك انتِ ظلمومة زهجنا منك يا دي حكومة) وهي زهجة مئة عام لم تنتهِ ولم تُفك بعد.
١٩٢٤ السودانوية ترياق العنصرية وآفاق جديدة للبناء:
إن ثورة ١٩٢٤ هي ثورة سودانوية لحمًا ودمًا، والرابطة بين أعضائها وقادتها هي السودان أولًا وأخيرًا، وتعد نقطة مرجعية من مراجع السودانوية. فقد جمعت تلك الثورة التنوع السوداني في طرح نظري أقرب إلى المواطنة بلا تمييز من أي طرح آخر. فإن قادتها الشهداء والراحلين الكبار من لدن: علي عبد اللطيف، عبيد حاج الأمين، حسن صالح المطبعجي، صالح عبد القادر، حسن شريف، عبد الفضيل الماظ، ثابت عبد الرحيم، سليمان محمد، فضل المولى، إلى سيد فرح، فومو أجم، مزمل علي دينار، مدثر البوشي، حسين إسماعيل المفتي، أبا يزيد أحمد حسين الشلالي، سيد شحاتة، إبراهيم سعيد عثمان، عبد العزيز عبد الحي، محمد منعم زايد، أحمد عبد الفراج، عثمان عبد العظيم خليفة، قسم السيد خلف الله، باخريبة، علي السيد أحمد رخا، علي ملاسي، عبد المولى يوسف مخير، زين العابدين عبد التام، جلاب بشير جلاب، الشيخ الطيب بابكر، محمود بخيت أحمد، العازة محمد عبد الله، فوز، أمينة بلال رزق، مصطفى بابكر الشيخ، الحاجة نفيسة سرور أحمد، أحمد سعيد محمد، حاج الشيخ عمر دفع الله الذي قاد أول مظاهرة في تاريخ السودان الحديث في أم درمان، عبد الله مبروك خليل، أحمد سعيد محمد، موسى الله جابو، محمد صالح أحمد، محمد صالح المك… يا لهذه المنظمة البديعة التي حوت التنوع السوداني قبل ما يقارب المائة عام بشكل لا تستطيعه بعض الأحزاب السياسية وبعض حركات الكفاح المسلح بعد مائة عام.
كل هؤلاء السودانيين والسودانيات اختاروا علي عبد اللطيف زعيمًا لهم، وقد يعجز البعض عن هذا الاختيار ولو بعد مائة عام من حدوثه. فإن التنوع السوداني سمة لا تخطئها العين المجرّدة عن الغرض، وقد قال لاحقًا المبدع الكبير متعدد جوانب الإبداع إبراهيم العبادي، متأثرًا بفسيفساء ١٩٢٤، قوله الشهير:
(جعلي ودنقلاوي وشايقي إيـه فايداني
غير خلقت خلاف خلت أخوي عاداني
نبقى ولاد رجلٍ يسري نبأنا
على البعيد والداني)
إن السودانوية والنيل ماركة مسجلة لثورة ١٩٢٤.
١٩٢٤: ثورتان في ثورة واحدة:
الذي ظهر من جبل الجليد هو ثورة ١٩٢٤، إنها ثورة ضد الاستعمار، ولكن لثورة ١٩٢٤ وجهٌ آخر، فهي ثورة ضد العنصرية ودعوة من أجل السودانوية. فقد نهضت على خلفية الاختلاف في جمعية الاتحاد السوداني، وفي إحدى الروايات المعتمدة فإن الخلاف قد حدث بين سليمان كشة وعلي عبد اللطيف، أو الرواية الأخرى المعتمدة كذلك أن الاختلاف كان حول بيان بمناسبة المولد النبوي الشريف، والذي تم استهلاله بعبارة: “أيها الشعب العربي الكريم”، فقيل إن علي عبد اللطيف قد قال إن السودانيين ليس كلهم من العرب!
إن اختيار علي عبد اللطيف قد تجاوز إرث تجارة الرقيق وقدم لها صفعة موجعة وهزمها هزيمة ماحقة في ذلك الوقت على الأقل، ولامس حق المواطنة المتساوية في وقت مبكر. فعلي عبد اللطيف الذي ترجع جذوره إلى قبيلة الدنكا من والدته، وإلى منطقة ليما في جبال النوبة من جهة الأب، وهي منطقة من مناطق قبيلة الميري التي ينحدر منها الشيخ علي الميراوي، وهو مقاتل آخر ضد الاستعمار، ويوسف كوة مكي الباحث عن المواطنة بلا تمييز. وتجدر الإشارة إلى أن عبد الفضيل الماظ ترجع جذوره إلى قبيلة النوير، ووالدته من قبيلة المورو في غرب الاستوائية، وعبد اللطيف والماظ يشكلان رأس مال معنوي وإنساني في الربط بين دولتي السودان حتى العودة إلى اتحاد سوداني بين الدولتين.
إن ثورة ١٩٢٤ قد استخدمت الوسائل الحديثة في توصيل رسالتها مثل البريد والبرق، وخرجت من ثنائيات التكوين التقليدي للسودان بين عرب وأفارقة وغيرها من الثنائيات، ووحّدت الوجدان الوطني.
وقد عجزت شخصيات عديدة عن استيعاب كنه الثورة وقواها الاجتماعية الحية والجديدة التي صعدت إلى السياسة السودانية وهددت مصالح التكوينات التقليدية والطائفية، مما دفع ببعض كبار الزعماء لكتابة “مذكرة كرام المواطنين” ضد ثورة ١٩٢٤. بل في الشهادات التي قُدمت للجنة الدكتور يوسف فضل، ورد أن بعض الفئات تصدت بغضب للمظاهرات، كما أن بعض كبار المثقفين مثل الأستاذ حسين شريف قد تساءل: من هو علي عبد اللطيف؟ إلى أي القبائل ينتمي؟ وشكّ في قدرة شخص مثله على القيام بثورة.
إن ثورة ١٩٢٤ حملت ملامح جنينية لمشروع وطني جديد، وتحدّت التركيبة التقليدية للمجتمع آنذاك، وقدمت رؤية وقيادة جديدة. وبعد هزيمة الثورة بُذلت تعمية أيديولوجية وتغبيش حتى لا تدخل مفاهيم ثورة ١٩٢٤ إلى عمق الحياة السياسية، وحتى ينطفئ وهج القضايا التي أثارتها، بل كانت هناك محاولات لدمغها بأنها حركة تابعة لمصر، في محاولة لقبر جذورها العميقة في تربة الواقع السوداني. ولأن علاقة ثورة ١٩٢٤ مع مصر كانت مع “مصر الثورة” — ثورة ١٩١٩ — لا “مصر الدولة”. ومع ذلك فإن ما تبقى من وهج قادتها الأفذاذ، سيما علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ، كان عصيًا على النسيان، وقد جذب باحثة من اليابان البعيد لتنقّب في سيرة هؤلاء الأوفياء الذين ما استبقوا شيئًا في التضحية من أجل السودان.
ثورة ١٩٢٤ كانت سباحة ضد المستعمر وضد المكونات التقليدية للمجتمع السوداني في آنٍ معًا، وشكلت قيادة من القوى الاجتماعية الجديدة الصاعدة، وقد أثارت الفزع في وسط المستعمر. وكانت ثورة ضد الكولونيالية في وسط تصاعد المد العالمي ضد الكولونيالية في جميع القارات، وكانت كذلك ضد التكوينات التقليدية. وبعد هزيمتها جرت محاولات لإسدال الستار على سيرتها وبريقها المضيء، الذي استطاع تجاوز الازدواجية الإثنية وقدم السودانوية بديلاً لها، وتجاوز إرث تجارة الرقيق. وقد ظل في رمادها وميض نار لم ينطفئ بعد، حتى بعد مئة عام.
الحديث الممجوج لدمغ قادة ثورة ١٩٢٤ بأنهم…
١٩٢٤ حلقة وصل بين الثورة المهدية والحركة الوطنية الحديثة:
من تلال الغبن التي خلفتها هزيمة الدولة الوطنية في كرري على يد كتشنر في ١٨٨٩، ومن رماد الهزيمة تخلّق شعور وطني جديد على يد المتعلمين والمثقفين والموظفين في أجهزة الدولة الحديثة التي أنشأها الاستعمار. وبعد ربع قرن من تلك الهزيمة استخلص الجيل الجديد دروس ما جرى وبنى رؤية جديدة في مقاومة الاستعمار. وقد عبّر المقدم أحمد عبد الفراج في إفادته الشفوية للجنة البروفيسور يوسف فضل حسن، وفي انتباهة قوية وملاحظة جديرة بالتأمل، وهو يؤرخ لمشاركته في ثورة ١٩٢٤، بأن الغبن الذي تولد من هزيمة الدولة الوطنية قاد إلى ثورة ١٩٢٤. ومن المؤكد أن هناك عوامل أخرى جديدة، ولكن في اعتقادي أن ١٩٢٤ تشكل حلقة اتصال وصلة بين الثورة المهدية والحركة الوطنية الحديثة، وأنها أول حزب سياسي سوداني حديث مكتمل الأركان والقيادة والرؤية والمطالب السياسية الواضحة. وإن علي عبد اللطيف، زعيم الثورة، قد استخدم عبارة “حزب” في رسالته لليوزباشي عقيل والتي نقلها الملازم عبد اللطيف الضوء ووردت في إفادته لاحقًا. وقد ذكر الشهيد عبد الخالق محجوب في مرافعته أمام محكمة النظام العسكري بقيادة الفريق عبود بأن ثورة ١٩٢٤ قد خلفت تأثيرًا عميقًا على جيلهم، وهم الذين أتوا بعد ربع قرن من هزيمة ثورة ١٩٢٤، والتي بدورها شكلت وعيها من هزيمة الثورة المهدية قبل حوالي ربع قرن من هزيمتها. والتأثيرات السياسية سلسلة مترابطة، وكل بذرة في الأرض تنمو شجرة زاهية ولو بعد حين.
ولم يقتصر تأثير ١٩٢٤ على الفضاء السياسي فقط، بل إن مثقفين ومبدعين كبارًا كخليل فرح وعرفات محمد عبد الله والعبادي قد كان لثورة ١٩٢٤ تأثيرٌ على إبداعهم. وقد أطلق عرفات محمد عبد الله على إصداره اسم “مجلة الفجر”، ولاحقًا أصدر عبد الخالق محجوب “مجلة الفجر الجديد” صلةً واتصالًا مع فجر عرفات محمد عبد الله. وهكذا يمضي التأثير المتبادل لمسيرة الحركة الوطنية.
وجدير بالتأمل أن علي عبد اللطيف في سنوات سجنه المديدة قد أمضى سنوات شارفت السنوات التي أمضاها نيلسون مانديلا، وكذلك الأمير عثمان أبو بكر دقنة الذي عاش في سجنه زمانين: زمان الثورة المهدية وزمان ما بعد هزيمة الدولة الوطنية، حتى فارق الحياة في سجن وادي حلفا، ونُقلت رفاته لاحقًا إلى شرق السودان. وقد أخذ علي عبد اللطيف الراية من عثمان دقنة. وكتبتُ مقالة من قبل عن ثلاثية سجن عثمان دقنة وعلي عبد اللطيف ونيلسون مانديلا. ولكم نحتاج أن نجسد بطولة الأمير عثمان دقنة وعلي عبد اللطيف كإحدى أيقونات الحركة الوطنية الحديثة. وعلينا، كما قال الأمير عثمان دقنة، ألا نبيع بالرخيص:
(يا ود علي أنا انقبضت.. علك ما تكون بعتني رخيص).
ومحاولات البعض إخراج ثورة ١٩٢٤ من سكة التاريخ الوطني، وبأنها إحدى محطاته الهامة، ناتج في كثير من جوانبه من التحيزات الإثنية وجرأة ثوار ٢٤ في اختيار قيادتهم على أساس السودانوية وضد إرث تجارة الرقيق، وفي مقاومتهم للفكر والبنية التقليدية السائدة في ذلك الوقت. وبهذا الاختيار فإن ثوار ١٩٢٤ قد فتحوا آفاقًا جديدة للبناء الوطني، وبذل البعض محاولات مستميتة في تغبيش الأثر وتجاوز الجديد الذي اجترحته ثورة ١٩٢٤، وإلحاقه بالقضايا المسكوت عنها حتى لا تبرز المعاني العميقة لثورة ١٩٢٤ وتكون نقطة مرجعية في قضايا البناء الوطني الحديث. والحقيقة إن ما حدث في ثورة ١٩٢٤ – من ضمن قضايا أخرى – يستدعي إعادة كتابة تاريخ السودان، وقد آن الأوان لتأخذ ثورة ٢٤ مكانها الحقيقي في المجرى الرئيسي للتاريخ السوداني الحديث، ليس إنصافًا لقادتها وإسهاماتها الجليلة وحسب، بل أيضًا لبناء مستقبل وضاء لشعبنا.
ثورة ١٩٢٤ والعمل المدني السلمي الجماهيري:
ثورة ١٩٢٤ جماهير وعساكر ومدنيون وعسكريون، ولكنهم عسكر في سياق مغاير؛ فقد أدركوا في وقت مبكر أهمية الجماهير، وعملوا على بناء جسور مع الحركة الجماهيرية الحديثة. وضمت الصورة الشهيرة والأنيقة لقادة الثورة مدنيين كبارًا، وزعيمهم عسكري ببدلة مدنية أنيقة وهندام حداثوي يتماشى مع فكر الثورة والقوى الاجتماعية الصاعدة التي تمثلها.
إن انفتاح الزعيم علي عبد اللطيف المبكر على العمل السلمي المدني، والأهمية التي أولاها للعمل مع المدنيين وهو إنسان ذو خلفية عسكرية، تستحق إمعان النظر. لا سيما أن هذه الصلة قد أتت ثمارها بتوسع الحركة الجماهيرية واستخدام أدوات جديدة في التنظيم الحديث وفي التظاهر وفي المقاومة المدنية. وربما ترجع نشأة الإنسان المدني المقاوم، التي تطورت لاحقًا في معارك الاستقلال وما بعده، إلى ثورة ١٩٢٤، لا سيما أن الحراك الجماهيري في تلك الثورة قد انتظم في مدن ومناطق جغرافية لا تزال فاعلة في كل الثورات التي تلتها، مثلما حدث في الخرطوم وأم درمان والأبيض وبورتسودان وشندي ومدني.
إن بداية العمل المدني الحديث ونشأة حركة ذات امتدادات في الريف والمدن وذات قيادة متنوعة تدين بالفضل لثورة ١٩٢٤. وقد شمل التنوع السوداني قادة الحركة من المدنيين والعسكريين. إن الثورات التي أسقطت الشمولية في أكتوبر ١٩٦٤ وأبريل ١٩٨٥ وديسمبر ٢٠١٨ استخدمت الشعار والبيان والصورة كأحد أدوات العمل والدعاية السياسية.
في الندوة التي أُقيمت احتفاءً بمرور ٥٠ عامًا على ثورة ١٩٢٤ في عام ١٩٧٤، ذكر العقيد محجوب عبد الله عبد السيد أن الإعلان الرسمي عن جمعية اللواء الأبيض قد تم في ١٥ مايو ١٩٢٤. ومن المعلوم أن جمعية اللواء الأبيض قد تكوّنت في عام ١٩٢٣ على أثر خروج علي عبد اللطيف وآخرين من جمعية الاتحاد السوداني، وهي أول منظمة حديثة سبقت اللواء الأبيض، ولكن اللواء الأبيض تميزت برسم خطوط فاصلة كمنظمة كفاحية وثورية قادرة على تقديم التضحيات وذات مطالب سياسية واضحة ومصادمة للاستعمار. وقد حوكم قائدها علي عبد اللطيف مرتين، وآخرها بالسجن لمدة عشر سنوات، ونقل على أثرها إلى سجن مدينة واو حيث استشهد عبيد حاج الأمين في ذلك السجن. وامتد اعتقال علي عبد اللطيف من واو إلى القاهرة حتى رحيله في عام ١٩٤٨ في معتقله، وهي فترة توازي مدة سجن الزعيم نلسون مانديلا تقريبًا كما ذكرنا من قبل. وعلي عبد اللطيف هو أبو الدعوة للسودانوية في تاريخنا الحديث، ومؤسس حركة المقاومة المدنية الحديثة مع زملائه قادة ثورة ١٩٢٤.
١٩٢٤ ترياق ضد العنصرية:
في ظل عجز الدولة الحالي واحتقان المجتمع وتصاعد خطاب الكراهية، فإن بعض الدواء الجيد يأتي من التاريخ ومن الحاضر الذي شكلته ثورة ديسمبر. إن ثورة ١٩٢٤ تشكل وصفة ممتازة للاحتفاء بالتنوع السوداني والقبول بالآخر وحق الآخرين في أن يكونوا آخرين.
إن قضية المواطنة بلا تمييز هي قضية السودان الأولى المتصلة بالديمقراطية والعدالة والتنمية والثقافة، وبالوصول إلى مشروع وطني جديد يحقق استدامة الحكم المدني وهيكلة الدولة والتوزيع العادل للثروة والعدالة الاجتماعية واحترام التنوع الثقافي. وهذه القضايا، سيما قضية المواطنة والوحدة في التنوع والقبول ببعضنا البعض ونبذ العنصرية والتحيزات الإثنية، فإن لثورة ١٩٢٤ والتشكيل البديع لقيادتها التي ضمت التنوع السوداني، لا تزال بذرة صالحة من بذور المشروع الوطني الجديد.
إن ثورة ١٩٢٤ نقطة مرجعية في النضال المستمر من أجل المواطنة بلا تمييز، وفي البحث عن مجتمع لا عنصري، وفي تبديل خطاب الكراهية بخطاب المحبة، وفي عدم تبديل الضحايا بضحايا آخرين، وفي ذات الوقت حق الآخرين في أن يكونوا آخرين، والوصول إلى سودان يسع الجميع. إن ثورة ١٩٢٤ – من وجهة نظري – تمثل التشكل الجنيني للبحث عن مشروع للسودان الجديد، متكاملاً مع مكافحة الاستعمار الكولونيالي. إن تصميم ملصقات ولافتات في عام ٢٠٠٥ تحمل صور الزعيمين علي عبد اللطيف وجون قرنق، فذلك الترابط العضوي بين (ثورة ١٩٢٤) و(ثورة السودان الجديد) لا تخطئه العين، على الرغم مما لحق برؤية السودان الجديد من تشوهات تجعل من أعمال التفكير النقدي ضرورة لرد الاعتبار لتلك الرؤية العظيمة، ونحو ميلادٍ ثانٍ لها، ولتزامن ذلك مع الدعوة لوقف العدوان والتناسي والتجاهل لثورة ١٩٢٤، ولنهتف من وادي النسيان وندعو جميع السودانيات والسودانيين والديسمبريات والديسمبريين للاحتفاء الواسع بالذكرى المئوية لتلك الثورة العظيمة في السودان وفي دولة جنوب السودان.
أخيرًا، إن ثورة ١٩٢٤ ورؤية السودان الجديد هي رأسمال معنوي للوصول إلى اتحاد سوداني بين دولتي السودان برضا وتوافق شعوب الدولتين، والبحث عن مشروع واسع للتكامل الإقليمي أفريقيًا وعربيًا، في ظل اضطرابات ومهددات واسعة يشهدها عالمنا الحديث، سيما البلدان التي في مثل حالتنا والتي تدافع عن سيادتها ومواردها دون أن تنعزل عن العالم الفسيح.
الخرطوم
١٨ فبراير ٢٠٢٣




