في الفاشر، لا تُقصف البيوت وحدها. ولا تُحاصر الأسواق وحدها. هناك شيء آخر يُقصف منذ أشهر: الحقيقة. وهناك فئة أخرى تُحاصر بكل ما للكلمة من معنى: الصحفيون.
ووسط هذا الظلام، يقبع الصحفي معمر إبراهيم، أحد أصوات الفاشر الحرة، مع بعض زملائنا الصحفيين والإعلاميين، في قبضة مليشيا لا تخشى شيئًا كما تخشى الحقيقة.
مليشيا تُقاتل الصورة أكثر مما تُقاتل الجندي.
تُطارد الهاتف أكثر مما تُطارد الدبابة.
وتخشى الكلمة أكثر مما تخشى الطيران.
ولذلك لم يكن مستغربًا أن تمتد مخالبها إلى معمر… وإلى من يشبهونه، أولئك الذين يحملون عيونًا لا تنطفئ وأصواتًا لا تُشترى.
لماذا اعتقلت المليشيا معمر وإخوانه من الصحفيين؟
ليس هناك تهمة.
ليس هناك محضر.
ليس هناك ورقة واحدة تُثبت أن هؤلاء الصحفيين ارتكبوا أي خطأ.
إنهم في الأسر فقط لأنهم صحفيون.
وفي قاموس هذه المليشيا، أن تكون صحفيًا يعني أنك تهديد… وأن تنقل الحقيقة يعني أنك عدو
معمر لم يطلق رصاصة.
معمر لم يخطط لعملية.
معمر لم يخطف مدنيًا.
معمر لم يحرق قرية.
كل ما فعله أنه نقل ما تفعله المليشيا… وهذا وحده كان كافيًا ليدخله في دائرة الانتقام.
أما إخوانه من الصحفيين المحتجزين معه، فهم يمثّلون مدرسة كاملة من الأصوات التي قررت ألا تخون شرف المهنة.
أولئك الذين رفضوا أن يتحولوا إلى أبواق، وقرروا أن يكونوا شهودًا لا شركاء.معمر وإخوانه… رهائن لا معتقلون
لنخاطب الحقيقة:
ما يجري ليس اعتقالًا ولا احتجازً
هذا خطف.
خطفٌ مباشر.
خطفٌ يُمارَس بعقلية العصابات
خطفٌ بلا سبب، بلا تهمة، بلا ضمانات، بلا حقوق، بلا أي احترام للقانون الإنساني.
معمر وإخوانه موجودون لدى جهة مسلحة لا تعترف بالقانون الدولي، ولا تلتزم بأي معايير، ولا تسمح بتوضيح، أو معلومة.
إنهم في وضع رهائن، وليس موقوفين
رهائن تستخدمهم المليشيا لتخويف باقي الصحفيين.
رهائن لأنها تريد أن تقول للفاشر وللسودان والعالم:
اسكتوا… وإلا سيكون مصيركم مثل معمرالمليشيا مسؤولة مسؤولية كاملة عن سلامتهم… كاملة غير منقوصة
وبأعلى صوت نقول:
أي أذى يصيب معمر، أي تهديد، أي تعذيب، أي إهمال… تتحمله المليشيا كاملة.
لا شريك.
لا مبرر.
لا شماعة.
فهم في قبضتها.
هم تحت سطوتها.
هم بلا حماية إلا ما تبقى من ضمير العالم—وهو ضمير ثقيل النوم.
المليشيا لا تستطيع غسل يدها من دم اي صحفي قتل منذ بداية الحرب زملاء اعزاء قضت عليهم مليشيا الجنجويد دهسا واعدام واعتقال وابتزاز
ولا تستطيع الادعاء أن أحدًا آخر مسؤول عن حياته.
ولا تستطيع أن تتنصل أو تتهرب أو تختلق قصة.
سلامة معمر مسؤوليتهم.
سلامة إخوانه الصحفيين مسؤوليتهم.
حياتهم بالكامل مسؤوليتهم.
وهذا ليس سؤالًا أخلاقيًا فقط، بل سؤال سياسي وقانوني سيلاحقهم في كل منبر وكل ملف وكل محكمة مستقبلًاماذا فعلت الفاشر لتُعاقَب بهذا الشكل؟
الفاشر لم ترتكب سوى أنها صمدت.
لم تنحنِ.
لم تبع روحها.
ولذلك قررت المليشيا أن تخنق صوتها، وأن تبدأ بخنق الصحفيين فيها.
فالصحفي هناك يعيش في أخطر بقعة في السودان:
يصوّر في الظلام.
يرسل الأخبار عبر أنفاس الإنترنت الأخيرة.
يكتب عن مدينة تتعرض للجوع والحصار والموت، بينما العالم يتوضأ بالنفاق.
ومع ذلك… يكتب.
ومع ذلك… يصمد.
ومع ذلك… يفضح.
ولهذا يخافونه
المليشيا تخاف الصحفي أكثر مما تخاف الجيش
نعم… هذه هي الحقيقة المرة.
الصحفي يهدد مشروعهم لأن الصورة التي يلتقطها قد تصل إلى كل العالم في دقيقة.
والجملة التي يكتبها قد تقلب روايتهم رأسًا على عقب.
والتقرير الذي يرسله قد يصبح وثيقة تستخدم ضدهم.
الصحفي ليس صوتًا فقط… هو شاهدًا.
والشاهد أخطر على القاتل من السلاح.
ولذلك يتعاملون مع الصحفي كأنهم يتعاملون مع خصم عسكري.
صمت العالم على احتجاز معمر وإخوته من الصحفيين ليس مجرد تقصير… إنه تواطؤ بالصمت.
كل منظمة صامتة… كل جهة مترددة… كل بيان باهت… هو خنجر في ظهر هؤلاء الصحفيين.
من يطالب العالم اليوم بحماية الصحفي ليس يطلب رفاهية… بل يطلب حقًا بديهيًا:
حق الحياة.
إلى المليشيا نقول بلا مواربة:
أطلقوا سراح معمر فورًا.
أطلقوا سراح كل إخوانه من الصحفيين.
فأنتم لا تكسبون شيئًا باحتجازهم… بالعكس، تكشفون خوفكم وضعفكم وانهيار روايتكم.
وإن كان هدفكم إخراس صوت الفاشر، فقد تأخرتم…
فقد خرج صوتها للعالم كله.
وكل يوم تحتجزون فيه الصحفيين، يكبر غضب المدينة… وتكبر شهادتهم… ويكبر عاركم.
معمر سيعود. وإخوانه سيعودون. والحقيقة—حتى لو سجنتم أصحابها—لن تسجن.
فالقلم الذي يُعتقل اليوم… سيكتب غدًا.
والصورة التي يُمنع نشرها… ستفضحكم بعد حين.
والصوت الذي تحاولون خنقه… سيخرج بعدكم بأجيال.
هذا وعد الفاشر…
ووعد الصحافة…
ووعد التاريخ الذي لا يمحو الجرائم مهما طال الزمن.
قلبي وعقلي معكم… أنتم المنارة التي تشق هذا الليل الأسود، وأنتم القدوة التي نتعلم منها معنى الوقوف في وجه الوحش بلا خوف.
ترافقكم الدعوات في كل لحظة—دعوات أن يحفظكم الله من بطش المليشيا، وأن يحيطكم برحمته وسط هذا الجحيم، وأن يعيدكم سالمين أقوى مما خرجتم.
أنتم الذين تُخيفون القتلة بالكلمة، وتربكون المليشيا بالصورة، وتفضحون الظلام بجرأة لا يمتلكها إلا من خُلِقوا ليكونوا شهداء على الحقيقة لا شهداء عليها.
وكل ثانية تمر وأنتم في الصف الأمامي للحقيقة، ترتفع لكم أيادٍ خفية بالدعاء…
أن يحفظكم الله من غدر السلاح، ومن ظلم الأسر، ومن ظلام الزنازين، وأن يبقيكم نورًا لا ينطفئ مهما تكاثر الليل.
أنتم المنارة…
وأنتم القدوة…
وأنتم الذين ترافقكم الدعوات كدرع لا يخترقه الطغيان
الحرية للزميل معمر ابراهيم
الصحافة ليست جريمة



