كتب القيادي بتحالف صمود طه عثمان إسحق بوست على الفيسبوك ثم ادعى أنه تم حذفه بسبب البلاغات. المقال المحذوف كان بعنوان إلى قيادة الدعم السريع وحركات الكفاح المسلح.. البوست وما جاء فيه يبدو لأول وهلة نابعاً من حرص على تجنب حرب أهلية أخرى لكن حين تتأمل منطقه بهدوء تكتشف أنه يبني استنتاجات واسعة على مقدمات هشة للغاية، وهنا تكمن مشكلة تحليلية ومعرفية كبيرة حاول أن يخفيها الكاتب بحذف البوست ـ فيما يبدو ـ بعد أن لفت انتباهه البعض.
أول نقطة يعتمد عليها طه عثمان إسحق في منطقه الفج هي أن الحرب الحالية مجرد إعادة تدوير لخطة المؤتمر الوطني. وهي حجة جاهزة لعقل كسول لطالما ظل يسمعها السودانيون في كل منعطف سياسي. لكن مطلقي هذه الحجج الواهية ينسون دائماً أنها تتطلب دليلاً لا مجرد إحالة تاريخية. صحيح أن للنظام السابق سجلّاً ثقيلاً في إشعال الحروب والانتهاكات واستخدام المليشيات غير أن اختزال الوضع الراهن في إرادة وتخطيط النظام البائد هو لعبة تعفي الأطراف المسلحة خارج القوات النظامية بالدولة السابقة والحالية من أي مسؤولية، كأنهم بلا قرار ولا مصالح ولا حسابات.
النزاع في دارفور وكردفان والنيل الأزرق ليس امتداداً آلياً لما كان، فقد تغيرت القوى الفاعلة وتغيرت التحالفات وتغير هدف كل فصيل، حتى أدوار اللاعبين الإقليميين أصبحت أكبر بكثير. ثم إن المجتمعات المحلية نفسها لم تعد الكتلة البسيطة التي جرى تصويرها في العقدين الماضيين. تجاهل كل هذا يخلق خطاباً سياسياً قديماً لواقع جديد تماماً.
ثانياً يدعو طه عثمان إسحق مليشيا الدعم السريع والحركات لوقف العدائيات فوراً بحجة أنهم وقود لمشروع تقسيم. هنا يقفز طه بلا وعي ـ أو في الحقيقة هذا ما تبدو عليه حدود وعيه وقدراته ـ يقفز فوق نقطة جوهرية هي أن أي وقف للعدائيات يحتاج طرفين يعترف كل منهما بأنه جزء من مشكلة لا جزء من حل مقدس. مليشيا الدعم السريع نفسها مسؤولة عن انتهاكات واسعة ووقائع موثقة بعضها حدث قبل 15 أبريل وبعضها بعدها. والحركات المسلحة ليست ملائكة أيضاً، بعض تكويناتها انخرط في صراعات قبلية وحروب إقليمية، وبعض قادتها ومنسوبيها يستخدمون خطاباً لا يقل شحناً عن خطاب أعدائهم.
أن تطلب من كل هؤلاء أن يتصرفوا كأنهم كيانات ضحية فقط بلا إرادة وبلا طموح سياسي فهذا تجاهل للواقع ومحاولة هشة يسهل تفكيكها لتبرئة من يظن طه أنهم يمثلونه كهامش في مواجهة ما يفترضه خطابه أنه المركز كعدو أزلي. وفي هذه النقطة فإن الفتى طه لا يختلف كثيراً عن دعاة التقسيم والتصنيف الجهوي والإثني، فقط هو يحاول استخدام رأس ماله الرمزي كقيادي فرضته محض الصدفة وحالة الغيبوبة السياسية في تحالفات الشلة وعبث أشباه الساسة السودانيين.
النقطة الثالثة التي تستحق التوقف هي فكرة لعبة المركز التي تتكرر في النص. نعم المركز له تاريخ طويل في توظيف الهامش لكن الخطاب هنا يهرب من سؤال أصعب وهو ماذا عن لعبة الهامش نفسه؟ من الذي سلّح القبائل؟ من الذي فاوض لسنوات بلا رؤية؟ من الذي تحالف أمس مع من يحاربه اليوم؟ من الذي حصل على مواقع في السلطة ثم عاد للسلاح؟ المشكلة ليست جهة واحدة تجر الآخرين. المشكلة شبكة مصالح وسلوك سياسي متكرر من كل الأطراف.
رابعاً حديث طه عن خطر تحول الإقليم إلى جنوب سودان جديد يحمل مبالغة واضحة، تشبيه أي نزاع بالجنوب صار أسلوباً للتخويف أكثر من كونه تحليلاً. جنوب السودان وقع في أزمة بنيوية ناتجة عن الانفصال وضعف المؤسسات واقتتال بين نخبة سياسية واحدة. الواقع الحالي في دارفور وكردفان والنيل الأزرق مختلف جذرياً، يمكن أن ينحدر نعم لكنه ليس نسخة جاهزة من تجربة أخرى.
منشور طه يفترض أن الحل يبدأ من وقف القتال دون أي ذكر لكيفية مساءلة الفصائل، أو معالجة الاقتصاد الحربي، أو ضبط السلاح، أو التعامل مع تدخلات الخارج. أي دعوة للسلام لا تتطرق لهذه الأسئلة تتحول إلى شعار. سلام بلا أدوات وبلا مسارات وبلا ترتيبات أمنية هو مجرد أمنية سياسية. قد يوقف الاقتتال بشكل مؤقت لكنه بلا شك سيمهد لنسخة أكثر دموية وتطرفاً للنزاع.
المشكلة في نمط التفكير الذي صاغ هذه الرسالة ليست أنه يدعو لوقف الحرب، فوقف أي حرب مطلب إنساني قبل أن يكون سياسياً لكن مشكلته أنه يقدم سردية واحدة تبرئ بعض الأطراف وتجرم أخرى، وتلخص صراعاً معقداً في وصفة سهلة وكسولة تلوم المركز وتبرئ الهامش بينما الحقيقة أكثر تشابكاً.
السؤال الذي يطرح نفسه ليس من الذي أشعل الحرب فقط؟ بل أيضاً من الذي يستفيد منها؟ من الذي يملك قرار إيقافها؟ ومن الذي يراهن على الزمن ليكسب موقعاً جديداً؟ فالحوار والحل الحقيقي يبدأ عندما نواجه كل طرف بحجمه الحقيقي لا عندما نعامله كضحية أزلية أو بطل مطلق.
وهنا نصل إلى نقطة جوهرية وفاصلة في ظني باعتبار أن هذا النمط من التفكير الذي يتبناه طه عثمان إسحق ليس حالة فردية بل هو نموذج لطريقة تفكير شائعة وسط كثير من أشباه الساسة السودانيين الذين وجدوا أنفسهم في مواقع القيادة خلال الثورة والحكم الانتقالي دون خبرة سياسية حقيقية أو أدوات تحليل جادة. النتيجة كانت خطاباً عاطفياً ومسطحاً يوزع الاتهامات يميناً ويساراً ويقفز فوق تعقيدات الواقع. هذا بالضبط هو نمط التفكير الذي ضيّع ثورتنا ولحظتنا الانتقالية. لم يكن الخلل في الشارع ولا في تطلعات الناس بل في من تصدروا المشهد بصدفة تاريخية لا بعقل سياسي. نفس السطحية في قراءة الأزمة، نفس الميل لخلق عدو واحد سحري، ونفس العجز عن بناء حلول واقعية. ما كتبه طه هو مجرد إعادة إنتاج لطريقة ونمط التفكير والتحليل التي أثبتت عجزها وفشلها لأنها تهرب من مواجهة مسؤوليتها وتلقي اللوم على الآخر دائماً.
#جيش_واحد_شعب_واحد
#مافي_مليشيا_بتحكم_دولة
#ضد_الجنجويد
#حكومة_الأمل
#جيشنا




