*استراتيجيات الحرب وأهمية المثلث في ظل نزوح أبناء دارفور إلى الشمالية في تقديرات الجيش سامي النمر*

تنظر القيادة العسكرية السودانية إلى المشهد الراهن بعين استراتيجية ترى أن الحرب لم تعد مجرد مواجهات ميدانية، بل أصبحت معركة على الجغرافيا والموارد والعمق الاجتماعي للدولة. وفي قلب هذه الرؤية تبرز الولاية الشمالية والمثلث المعروف بثقله الديمغرافي والسياسي باعتباره آخر المناطق التي بقيت خارج دائرة الانهيار، بل وتحولت إلى حاضنة آمنة تعيد الدولة ترتيب أنفاسها فيها. وفي الوقت نفسه يشكل النزوح الكبير لأبناء دارفور نحو هذه المنطقة واحدة من أهم التحولات التي أعادت تشكيل موازين القوى والتقديرات الأمنية للجيش.

يدرك الجيش أن المثلث ليس مجرد مساحة جغرافية، بل هو قاعدة البقاء للدولة في زمن الانهيار. فالمثلث الشمالي من دنقلا إلى الشايقية والمناطق المحس والدناقلة يمثل رأس مال الدولة البشري والتنظيمي، حيث يستمد الجيش معظم ضباطه وجنوده وقياداته من هذه المنطقة التي حافظت تاريخياً على ولاء راسخ للمؤسسة العسكرية. كما يمثل المثلث عمق الإمداد والوقود والغذاء، وهو الذي يربط السودان بمصر عبر شريان بري يعد الأهم في هذه المرحلة. لذلك فإن حماية المثلث بالنسبة للجيش ليست واجباً أمنياً فحسب، بل ضرورة وجودية لضمان استمرار الدولة ذاتها.

في المقابل، جاء نزوح عشرات الآلاف من أبناء دارفور نحو الشمالية ليخلق واقعاً جديداً أمام الجيش. فالنزوح الإنساني مفهوم ومقبول بل وواجب تجاهه، لكن في دولة تخوض حرباً مفتوحة، يصبح لأي تحرك سكاني كبير تبعات أمنية واستراتيجية. الجيش ينظر إلى هذا النزوح باعتباره خطوة يجب التعامل معها بعناية شديدة، إذ يخشى من اختلاط المدنيين بعناصر مسلحة أو خلايا نائمة يمكن أن تستغل هشاشة الوضع. ومع ذلك، فإن المؤسسة العسكرية لا تتعامل مع أبناء دارفور ككتلة واحدة ولا تنظر إليهم بمنطق الشك، بل بتقدير واضح أن أغلبهم ضحايا للحرب، جاءت بهم الظروف القاسية إلى منطقة آمنة. لكن الحس الأمني يجعل الجيش مطالباً بتدقيق الهويات، ومراقبة حركة السلاح، وتنظيم وجود الوافدين عبر لجان مشتركة تمنع أي اختراق محتمل داخل منطقة تعتبر اليوم خط الدفاع الأخير للدولة.

وتقوم رؤية الجيش على أن الشمال يجب أن يبقى مستقراً مهما كان الثمن، لأن سقوطه يعني انهيار شريان الإمداد، وفقدان الاتصال بالحدود الشمالية، وفتح الطريق أمام تحركات معادية من الصحراء أو من أي مجموعات تستغل حالة النزوح لصنع جيوب نفوذ أو فرض وقائع جديدة على الأرض. لذلك تتعامل المؤسسة العسكرية مع الشمالية باعتبارها “حديقة الدولة الخلفية”، المنطقة التي إذا ظلت آمنة ظل السودان قائماً، وإذا اهتزت اهتزت الدولة كلها. وهذا يجعل أي اضطراب ديمغرافي غير مُدار، أو أي احتكاك بين النازحين والمجتمع المحلي، تهديداً قد يتجاوز طبيعته المحلية إلى تهديد استراتيجي حقيقي.

ومن منظور الجيش فإن استقرار أبناء دارفور في الشمالية يمكن أن يكون عامل قوة إذا تم إدماجه بصورة صحيحة. فالجيش يريد أن يعيش الجميع في أمان دون تسييس، وأن تتم حماية المدنيين بعيداً عن الاستغلال العسكري أو القبلي أو الحزبي. لكنه يريد كذلك أن يضمن أن هذا الوجود الكبير لا يتحول إلى كتلة سياسية أو عسكرية توجهها أطراف معادية للدولة أو تستخدمها قوات الدعم السريع لخلق موطئ قدم في أهم منطقة في ميزان الحرب.

ويتأسس تقدير الجيش للحالة الراهنة على أن الحرب دخلت مرحلة “صراع على الجغرافيا والسكان”، وأن الحفاظ على النسيج الاجتماعي في الشمالية ضرورة لا تقل أهمية عن الحفاظ على خطوط النار. فالمنطقة التي صمدت طوال الحرب يجب أن تبقى بعيدة عن الفوضى، وأن تبقى نموذجاً للاستقرار الذي يُعاد منه بناء البلاد بعد انتهاء القتال. ولذلك تتحرك المؤسسة العسكرية بحساسية شديدة تجاه أي محاولة لإحداث خلل سكاني أو اختراق أمني، وفي الوقت نفسه تبذل جهوداً لمنع الاحتكاكات ولضمان حياة كريمة للنازحين.

أن الجيش يرى المثلث باعتباره محور الصمود الأخير، ويرى النزوح الدارفوري إليه حدثاً كبيراً يجب التعامل معه بميزان دقيق يجمع بين الواجب الإنساني والحس الأمني، ويمنع أي اختراق قد يغير ميزان القوى في منطقة تُعد مركز ثقل الدولة ورأس مالها الاستراتيجي. إنها معركة تتجاوز السلاح والنار إلى إدارة المجتمع، وحماية الجغرافيا، ومنع أي طرف من تحويل النزوح إلى أداة لإعادة رسم الخرائط داخل أهم منطقة في حسابات الدولة السودانية اليوم.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole