حسناً.. وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فكما تَجْمع كل من الرياض وأبو ظبي قواسم ذات طبيعة إستراتيجية فهما يتباينان كذلك ليس فحسب بخصوص قضايا جيوسياسية عارضة (Nuance break up) كما في اليمن أو سوريا ، بل تطور خلاف البلدين لما يمكن تصنيفه في خانة الشقاق (Rift) وقد تجلّى ذلك في قضايا تتعلق بالأدوار التي تحدد الزعامة والريادة في المنطقة.. مثل العلاقة مع الولايات المتحدة ، الريادة في مجالات التكنولوجيا خصوصاً الذكاء الاصطناعي ، الصراع بين الرياض وأبو ظبي كمراكز للمال ، وكمراكز سياحية في المنطقة ، إلى جانب الريادة والإستثمار في مجال الطاقة المتجددة.إذن تطورت عوامل إستقطاب نتجت عنها تنافسية متصاعدة أو كما تسميها الصحافة الغربية بال (Budding Rivallry) بين العاصمتين الخليجيتين الأبرز في سبيل إمتلاك النفوذ السياسي والإقتصادي في المنطقة ، وهو ما يستدعي أولا توسيع النفوذ الجيوسياسي و تنويع الإقتصاد (Ecnomics diversification) بدلاً من الإعتماد على النفط فقط. فيما يتعلق بتوسيع النفوذ الجيوسياسي نلاحظ الإندفاع المحكوم لأبو ظبي لتطويق مناطق النفوذ والمصالح السعودية (اليمن ، السودان ، القرن الافريقي). ولكن القضية الأساسية الأخرى والتي تأخذ اليوم أولوية كبرى في أجندة الدولتين (الرياض وأبو ظبي) هو تنويع الإقتصاد الوطني بدلاً عن الإعتماد على الإقتصاد الريعي (Renteir) القائم على النفط.
إذن إندفعت كل من الرياض وأبو ظبي في مضمار تنويع إقتصاداتها الوطنية بإستثمار فوائض الموارد الريعية للنفط وإستثمارها في مجالات أساسية ثلاث وهي السياحة والتكنولوجيا والطاقة المتجددة. بخصوص السياحة بالطبع ليس خافياً أن الإنفتاح الكبير لولي العهد السعودي محمد بن سلمان والذي تجلى في تأسيس الهيئة العامة للترفيه في ٢٠١٦م بقيادة تركي آل الشيخ وتدشين (موسم الرياض) وتخفيف القيود السلفية على الإحتفالات بالمملكة ودعوة فرق الرقص والغناء العربية والغربية هو توجه لتسويق المملكة العربية السعودية كوجهة سياحية بديلة ل(دبي) ، ثم تدشين مشروع (نيوم) كأضخم مشروع سياحي في العالم على البحر الأحمر يعمل كلياً بالطاقة المتجددة بإستثمار بلغ ٥٠٠ مليار دولار بتمويل من صندوق الاستثمارات العامة السعودي مأمولاً أن يضخ المشروع في شرايين الإقتصاد السعودي ما قيمته ١٠٠ مليار دولار سنوياً وفق رؤية ٢٠٣٠م ، حيث لم يفت ذلك على (أبوظبي) التي ضخّت بدورها عشرات المليارات من الدولارات على مشاريع سياحية وسكنية على الجانب المصري من البحر الأحمر المحاذي لمدينة (نيوم) السعودية وكذلك على البحر المتوسط مثل مشروع (رأس الحكمة) بإستثمار بلغ ٣٥ مليار دولار وهو مسعى إماراتي لسحب البساط من المشروع السياحي السعودي العملاق ، وهكذا كي تأتي الهجمة الإرتدادية السعودية بوقف التدفق الإستثماري في شرايين الإقتصاد المصري خلال السنوات السابقة مما خلق موجة توتر غير مسبوقة بين الرياض والقاهرة. إن إحدى أسباب توتر الرياض من الدور الإماراتي في السودان هو خوفها من سيطرة أبوظبي على الساحل السوداني على البحر الأحمر مما سوف يخلق ظروفاً غير مواتية للطموحات السعودية في الساحل المقابل لتطوير وتنويع إقتصادها وفق رؤية ٢٠٣٠م. بخصوص الطاقة المتجددة فالمنافسة هنا ليست في صالح دولة الإمارات لصغر المساحة مقارنة بالسعودية التي قطعت شوطاً كبيراً في هذا المضمار خصوص في إطار مشروع نيوم الذي يعتمد بالكامل على الطاقة المتجددة مما تطلب توطين هذه الصناعة في المملكة.
ولكن الصراع الأساسي والكبير بين الرياض وأبوظبي يدور الآن في ميدان التكنولوجيا خصوصا ريادة ثورة الذكاء الاصطناعي (AI) في الشرق الأوسط حيث تخوض كل من الرياض وأبو ظبي ذلك بالظفر والناب ، لأن معركة الذكاء الإصطناعي ليست (Win-win game) بل هي أقرب ل (Zero-sum game) حيث ما يكسبه أحدهم هو خسارة خالصة للطرف الآخر ولا مكان إلا لمركز واحد (Regional tech superpower)!!.لقد تهيأت كل من الرياض وأبو ظبي لحرب ريادة الذكاء الاصطناعي بتدشين أبو ظبي لمجموعة G42 التابعة لصندوق (مبادلة) الذراع القوي لصندوق ابو ظبي السيادي ، كذلك أنشأت المملكة العربية السعودية مجموعة هيوماين (Humain) كذراع يهتم بالذكاء الإصطناعي تابع لصندوق الاستثمارات العامة السعودي (Public investment fund). مما يثير مخاوف الرياض هو التفوق العارم الذي أحرزته أبوظبي في المجال حيث بلغت السعة التخزينية لمراكز البيانات بالإمارات (٥٤ مركز) يبلغ ٢٣٥ ميقاوات مقابل ١٢٣ ميقاوات في المملكة العربية السعودية ، َوهي سعة متواضعة بالنسبة لكليهما مقارنة بألمانيا التي تبلغ سعة مراكز بياناتها ما يزيد قليلاً عن ١ قيقاوات (١٠٢٦ ميقاوات على وجه الدقة) !!. عملت الإمارات بعد إنتخاب الرئيس ترمب مباشرة على رفع العقوبات الأمريكية على مجموعة G42 (لعلاقاتها المريبة بهواوي الصينية) وهي الذراع الإماراتي الرسمي الطويل في مجال الذكاء الاصطناعي بقيادة طحنون بن زايد مستشار الأمن القومي الإماراتي. صحيح أن المملكة العربية السعودية قد وضعت إستراتيجية طموح في رؤية ٢٠٣٠ في سبيل دمج الذكاء الاصطناعي في كافة مجالات الإقتصاد السعودي كي تصل بسعة مراكز بياناتها ل ما يتجاوز ٥٠٠ ميقاوات في ٢٠٣٠ ، ولكن أدركت الإمارات العربية المتحدة رهانات الرئيس ترمب في الإهتمام بالذكاء الإصطناعي وتحويله لقاطرة جبارة في خلق تحول إقتصادي بالولايات المتحدة يسهم في خلق وظائف بوتائر غير مسبوقة منذ إعتلائه المنصب في بدايات ٢٠٢٥م وذلك بتبنيه لمشروع استارقيت (Stargate LLC) للذكاء الاصطناعي بقيمة تبلغ ٥٠٠ مليار دولار كشراكة بين Open AI و Oracle و SoftBank و Nvidia و Cisico. هنا إستثمرت (الإمارات) علاقاتها القديمة مع الرئيس ترمب برفع العقوبات التي فرضها الرئيس بايدن على مجموعة G42 بمنع تعاملها مع القطاع التكنولوجي الأمريكي بسبب شراكاتها المريبة السابقة مع هواوي الصينية مما وضعها في دائرة إتهام بتسريبها تكنولوجيا أمريكية عبر هذه الشراكة (التكنولوجيا التي تم بها تطوير صواريخ PL 15 المستخدمة في الطائرة J10c). غير المخفي طبعاً أن الإمارات وعبر شركة MGX التي تتبع ل G42 قد إشترت أسهماً في مجموعة American Coin التي يملكها كل من اريك ودونالد جونيور إبنا الرئيس دونالد ترمب بما قيمته ٢ مليار دولار (Binance deal) ، حدث ذلك فقط قبل إجتماع طحنون بن زايد مع الرئيس ترمب ب٣ ايام ، الاجتماع الذي بعده تم رفع العقوبات التي أوقعها الرئيس بايدن على G42. وهكذا كي تدخل الإمارات عبر MGX (الذراع الدولي لأعمال G42 في مجال الذكاء الاصطناعي) شريكة في المشروع الأمريكي العالمي لإستارقيت دافعة ١٠٠ مليار دولار (القيمة الكلية للمشروع ٥٠٠ مليار دولار) ، وليس ذلك فحسب بل صادق الرئيس ترمب على مشروع استارقيت الإمارات (Stargate UAE) بقيمة إجمالية ١٥٠ مليار دولار بأبوظبي لبناء مراكز بيانات بسعة ٥ قيقابايت ينجز منها ٢٠٠ ميقابايت إلى نهاية ٢٠٢٦ وعبر ذلك تتمكن أبوظبي من أمتلاك لغتها (Chatbot) كلغة ChatGpt مما سوف يجعلها الأكثر تأهيلاً في المنطقة لريادة ثورة الذكاء الإصطناعي.
هنا تنبَهت الرياض لخطأها الإستراتيجي في إستثمارها ل ٥٠٠ مليار دولار في المشروعات السياحية (نيوم) دون الإنتباه لمستقبل الإستثمار في الذكاء الإصطناعي ، فالصرعة الحاسمة أصبحت هي موجة الذكاء الاصطناعي، وهكذا كي تنطلق أبو ظبي مطلوقة الظهر للإستثمار في مشروعات الذكاء الاصطناعي محلياً وإقليمياً وعالمياً عبر اذرعها G42 و MGX و Khazana متجاوزة إستثمارات الرياض في نفس المجال وهو ما يهدد الريادة التكنولوجية للرياض في المنطقة. وفي هذا المنعطف أتت زيارة ولي العهد السعودي واشنطن في سبيل حسم عدة ملفات منها الملف الأهم وهو العلاقات التكنولوجية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية ثم الملف الدفاعي وعلى رأسه شراء طائرات F35 ثم ملف الطاقة النووية وفي ثنايا ذلك وقبل وصول ولي العهد السعودي العاصمة الأمريكية بأقل من شهر إنفجرت كارثة الإبادة الجماعية في الفاشر ،وهكذا كي يتم التوجيه بتحريك وسائل التواصل السعودية لإدانة الدور الإماراتي في المجزرة وصار ملف السودان بين غمدة عين وإنفتاحها أهم ملف في أضابير ولي العهد المحمولة لواشنطن بعد مكالمة ووعد لرئيس مجلس السيادة الانتقالي السودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان!!. بالطبع لن ولم ينسى ولي العهد السعودي كيف استفادت الإمارات واللوبي المعادي للسعودية من دعاية إغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بإستانبول وهو ما أغلق الكثير من الأبواب في وجه الأمير الشاب في العاصمة الأمريكية مذاك.. فهل كانت جريمة الفاشر هي مدخل الرجل لإغلاق الأبواب وتضييقها أمام أبوظبي في واشنطن كما حدث له قبل ٧ سنوات او على الأقل ذلك ما هُيّئ له!!؟..نواصل.




