الشكر والتقدير موصول للأستاذة ريشان أوشي على مقالها الممتاز الذي قدّمت فيه قراءة عميقة لمنهجية الولايات المتحدة — وخاصة إدارة الرئيس ترامب — في التعامل مع السودان كملف للصراع لا بوصفه أزمة تبحث عن حل، بل كمنصة هندسية تُدار فيها الفوضى بما يخدم ميزان القوى والمصالح الدولية.
وانطلاقًا من هذا المقال المهم، تأتي هذه الصياغة الموسَّعة لتقديم أمثلة حقيقية من تجارب عدد من الدول التي شهدت النموذج ذاته من “الهندسة السياسية” التي تعتمد على إطالة عمر الأزمات بدلًا من إطفائها.
تقوم الاستراتيجية الأمريكية — كما أظهرت وثائق عديدة وكتب مهمة مثل “لعبة الشيطان” — على مبدأ واضح: الفوضى المدارة أكثر فائدة من الاستقرار الكامل. فالأزمات المفتوحة تمنح واشنطن القدرة على المناورة، وابتزاز الحلفاء، والتحكم في التوازنات الإقليمية، وهو ما يتكرر اليوم بصورة واضحة في الحالة السودانية.
في أفغانستان، خاضت الولايات المتحدة حربًا امتدت لعشرين عامًا، رغم أن لديها القدرة على الحسم في سنواتها الأولى. لكن إبقاء الصراع مفتوحًا كان يخدم استراتيجية الضغط على باكستان والصين وإيران، ويضمن استمرار وجود عسكري أمريكي في قلب آسيا. ورغم خروجها، إلا أنها غادرت بعد أن ضمنت بقاء البلاد في حالة اضطراب تسهل إدارتها من بعيد.
وفي سوريا، اختارت واشنطن — إلى جانب القوى الدولية الأخرى — ألا تُغلق الحرب، بل حولت البلاد إلى ساحة مساومات: ورقة الأكراد في وجه تركيا، ورقة الفصائل في مواجهة النظام، وورقة اللاجئين للضغط على أوروبا. وبذلك تحولت سوريا إلى نموذج واضح لكيفية صناعة الفوضى واستخدامها لإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية.
أما الصومال، فقد تُركت في وضع “الدولة المنهارة” لأكثر من ثلاثة عقود، رغم أن القوى الدولية تمتلك القدرة على إعادة بناء مؤسساتها. لكن الفوضى هناك ضمنت للولايات المتحدة موطئ قدم قوي على البحر الأحمر وخليج عدن، ومبررًا دائمًا للتمدد العسكري تحت لافتة مكافحة الإرهاب.
وبالعودة إلى السودان، يبرز بوضوح نفس النمط:
ترامب لا ينظر إلى السودان كأزمة يجب إنهاؤها، بل كأداة ضغط على الرياض وأبوظبي. فكل يوم يطول فيه أمد الحرب يرفع مستوى القلق الخليجي، وكلما ارتفع القلق زادت قدرة واشنطن على فرض شروطها السياسية والاقتصادية. السودان بالنسبة لترامب ليس ملفًا سودانيًا، بل ورقة ضمن صراع أكبر بين الخليج والبيت الأبيض.
ومع ذلك، تختلف الحالة السودانية عن تجارب أفغانستان وسوريا والصومال. فالسودان يمتلك مجتمعًا صلبًا ذا خبرات طويلة في مواجهة الأزمات، وجيشًا يمثل رمز الدولة وليس ميليشيا منقسمة، وإرادة وطنية تنظر إلى الحرب الحالية باعتبارها معركة سيادة ووجود. هذا الوعي الجمعي يجعل من الصعب على أي قوة خارجية إعادة تشكيل السودان وفق هندسة مصممة مسبقًا في واشنطن.
لقد أثبت السودانيون — عبر أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وثورة ديسمبر 2018، وصمودهم أمام حرب 14 أبريل — أنهم شعب لا يخضع بسهولة ولا يسمح لقوى الخارج بفرض مستقبل لا يعبر عنه.
وعليه، فإن أي محاولة لإطالة أمد الحرب أو صناعة سيناريو “فوضى دائمة” ستصطدم حتمًا بواقع مختلف: إرادة شعبية قوية، وجيش وطني موحّد، ووعي سياسي يدرك حجم المخاطر ومصادرها.
إن إعادة قراءة دور الولايات المتحدة في إدارة الفوضى عبر هذه الأمثلة ليس غرضها تشويه القوى الدولية، بل تفكيك منهج الفوضى ذاته، وإبراز ضرورة أن يكون مستقبل السودان بيد أبنائه، لا بيد غرف مغلقة في البيت الأبيض أو حسابات إقليمية تتغير مع تغير المصالح. السودان بلد يعرف كيف يصنع معادلته الخاصة، مهما حاول البعض إعادة رسمه وفق خرائط لا تشبهه.




