*جوع …فقر.. …انهيار: واقع السودان المالي*

الحرب في السودان ليست صراعًا مسلحًا… إنها طاحونة سحقَت كل ما يملك هذا الشعب من اقتصادٍ وحياةٍ وأمل.
هي ليست رصاصًا ومدافع… بل آلة اجتثاث شاملة تطحن العملة حتى تتبخر قيمتها، وتدفع الأسعار إلى السماء بلا سقف، وتشُلُّ الإنتاج حتى يتحول إلى ذكرى، وتفتح أبواب البطالة لتبتلع البيوت واحدًا تلو الآخر، وتحوّل الأسر إلى فتات، والمدارس والمستشفيات إلى أطلالٍ لا حياة فيها، والفقر إلى قانون يومي لا يرحم أحدًا… لا كبيرًا ولا صغيرًا.

السودان اليوم ليس وطنًا يعيش حربًا…
السودان اليوم معمل ضخم لتجريب أسوأ ما يمكن أن تفعله الفوضى ببلدٍ حيّ.
مختبر للدمار الكامل، تُختبر فيه قدرة المواطن على البقاء في ظل دولة سقطت، مجتمع تمزّق من جذوره، ومستقبلٍ صار مجرد ظلّ باهت.
كل تفاصيل الحياة التي عرفناها انقلبت إلى كوابيس متصلة، وكل يوم يمر يضيف طبقة جديدة من الألم فوق صدور الناس، كأن الحرب تسجّل تاريخها بالنار على أجساد السودانيين وأرواحهم.
الجنيه السوداني لم ينهار فقط، بل أصبح شاهدًا على فشل كل السلطات السياسية والاقتصادية. العملة التي كانت تحافظ على كرامة المواطن تحوّلت إلى ظل بلا قيمة، ورقة تتقاذفها الرياح، وأداة ضغط يومية على المواطن.
كل صباح يستيقظ المواطن ليجد الأسعار قفزت بلا سبب، الأسواق تُدار وفق قانون الفوضى العارية، والمواطن أصبح رهينة تقلبات متسارعة بلا سقف أو حماية. السلع الأساسية لم تعد متاحة إلا لمن يملك ثمنها، والقادمون الجدد على سوق الاستهلاك يجدون أنفسهم مستهدفين بالحرمان اليومي.

الجنيه الذي كان يمثّل الدولة ومصدر الثقة أصبح اقتصادًا من دون خريطة، وطنًا بلا سيطرة، حياةً بلا أمل. المواطن يقاتل اليوم من أجل البقاء لا من أجل العيش الكريم، وكل إدخار أو راتب يتحول إلى رماد في لحظة، بفعل التضخم المستمر وفقدان الثقة في السياسة الاقتصادية.الجنيه السوداني… الورقة التي سقط منها كل معنى

لم يعد الجنيه مالًا يحفظ الكرامة أو قيمة الصرف؛ أصبح شاهدًا على انهيار الدولة.
الجنيه اليوم ينهار كل يوم عشرات المرات في وجدان المواطن قبل أن ينهار في السوق. أصبح الناس يتعاملون معه كشيء عديم الوزن: يدفعون المزيد، ويأخذون أقل، ويختنقون بين مطرقة السوق وسندان الفوضى.

لم تعد الدولة تملك أدوات ضبط السوق، ولم يعد السوق يعترف بالدولة.
فوضى.. ثم فوضى.. ثم جحيم لا نهاية له.

السلع تُسعر بسعر “اليوم” لا بسعر “الشهر”. التاجر يرفع السعر خوفًا من الغد قبل جشعه، والمواطن يدفع ثمن خوف الجميع.
إبادة معيشية وليست أزمة اقتصادالناتج المحلي الإجمالي انكمش بنسبة ‑29.4٪ في 2023 واستمر الانكماش في 2024

الصادرات تراجعت بنسبة 28٪، والواردات انهارت بنسبة 66٪

ملايين الشباب بلا عمل، الإنتاج في الزراعة والصناعة والخدمات شبه متوقف، والاقتصاد أصبح يعتمد على الاستهلاك اليومي فقط.

ارتفاع الأسعار ليس مجرد أثر جانبي للحرب؛ إنها حرب ثانية تُشن على موائد الأسر.
الخبز صار رمزًا للمذلة اليومية.
الدواء أصبح رفاهية.
الوقود حلمًا.
المدارس توقفت لأنها لا تستطيع تحمّل تكاليف الطباشير قبل الرواتب.

الأسواق اليوم تشبه المتاريس: من يعبرها يفقد نصف دخله، ومن يحاول النجاة منها يخسر أعصابه أو كرامته.
كل شيء أصبح غاليًا… إلا حياة السوداني، فهي الأرخص.
توقف الإنتاج… البلد التي تعيش على بقايا ما كانت تُنتجه

السودان أصبح بلدًا بلا إنتاج.
المصانع: مغلقة، محروقة، مُدمرة، أو تعمل بنصف طاقتها.
الزراعة: الطرق مقطوعة، الوقود غائبة ، العمال نازحون، الأراضي محاصرة.
الصناعة: تفتقر للخامات والتمويل والكهرباء.
التعدين: أصبح مرتعًا للمليشيات والتهريب، لا للدولة.

عندما يتوقف الإنتاج، يتحول المجتمع إلى “مستهلك بلا دخل”، أي إلى مواطن يعيش على أعصابه.
ولادة جيل بلا مستقبل

لم تعد البطالة حالة اقتصادية… بل حالة نفسية.
الشباب يبحثون عن عمل فلا يجدون، أو يقبلون أعمالًا لا تشبه أحلامهم ولا شهاداتهم.
النساء يدخلن سوق العمل لأن الرجال عاطلون.
الأطفال يبيعون المناديل على الشوارع.
أُسر بأكملها بلا مصدر دخل.

التعليم توقف، الجامعات مغلقة، والطالب الذي لا يجد وسيلة مواصلات لن يتخرج أبدًا.
جيل كامل يُدفع نحو الهجرة أو الجريمة أو الانهيار.
الكارثة الاجتماعية… كسر ظهر المجتمع
النزوح: شعب يسير على قدميه بحثًا عن وطن آخر

النزوح اليوم ليس أزمة إنسانية… بل الهجرة الكبرى.
ملايين يتنقلون من ولاية لأخرى، آلاف يعبرون الحدود يوميًا.
لم يعد النزوح حالة طارئة؛ صار أسلوب حياة قاسٍ.

بيوت تُترك مفتوحة لقدرها.
أطفال ينامون في شوارع مدن لا يعرفون أسماءها.
أمهات يحملن كل حياتهن في شنطة واحدة.
رجال يبحثون عن عمل في كل مكان… ولا يجدون.

تفكك الأسر… حين تتشقق الروح

الحرب لا تقتل الأفراد فقط؛ تقتل الأسر.
زوج يفترق عن زوجته بسبب الطرق المقطوعة.
أم لا تعرف مكان ابنها.
أب يعمل خارج السودان ولا يستطيع العودة.
أطفال يكبرون في بيئات مضطربة، بلا استقرار، بلا تعليم، بلا أمان.بلا تعليم، ويضع أساسًا اجتماعيًا هشًا لكل المستقبل.

الجريمة والعنف

مع البطالة والانفلات الأمني، ارتفعت الجريمة بشكل مخيف: سرقات، خطف، سطو، قتل بلا سبب…
ليس لأن السوداني عنيف، بل لأن الجوع يصنع العنف، والخوف يصنع الجريمة، واليأس يصنع الانفجار. الشوارع تحولت إلى ساحات مواجهة بين المواطن والواقع نفسه.

انهيار الخدمات الأساسية

المستشفيات بلا أدوية، بلا أجهزة، بلا كوادر، الأطباء هاجروا، المرضى يموتون في الطرقات، الولادة أصبحت مغامرة خطيرة، العمليات الجراحية حلم بعيد، الأمراض العادية قاتلة.
التعليم توقف، المدارس مغلقة، الجامعات متوقفة، الأطفال بلا مستقبل، والأجيال المقبلة تُبنى على الركام والفوضى.انهيار الدولة ومؤسساتها

السودان يعيش اقتصاد حرب، لا اقتصاد دولة.
الذهب يُهرب، الدولار يُرفع، الوقود يُباع خارج النظام، الضرائب تُفرض بالقوة. الدولة بالكاد موجودة، والشعب هو الحلقة الأضعف، يدفع ثمن كل فساد وفوضى.

تدمير النسيج الاجتماعي

كل بيت في السودان هو ملحمة صمود أو مأساة انهيار.
الأسر منهارة، الجيران مشردون، القرى فارغة، المدن تتفكك، الأطفال يكبرون بلا أمان، لا تعليم، لا حماية، لا أمل. كل يوم جديد يشبه الأمس، وكل غد يبدو أكثر قتامة.

الآثار النفسية
الحرب مزقت النفوس قبل الأجساد:

الخوف أصبح نمط حياة.

الحزن صار روتينًا يوميًا.

القلق صار جزءًا من الدم اليومي.

اليأس أصبح القاعدة.

الجيل الجديد يكبر في بيئة مليئة ويصبح النموذج الاجتماعي كله مشوهًا.

تأثير المرأة والأطفال

المرأة اليوم مضطرة لتولي كل الأدوار، تحمل مسؤولية الأسرة، العمل، البقاء، والبقاء على قيد الحياة، مع غياب أي حماية. الأطفال يعملون، يتجولون، ويواجهون مخاطر الحياة المبكرة، ويكبرون على صدمات نفسية واجتماعية مستمرة.

ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد أزمة… إنه زلزال تاريخي شامل.

انهيار اقتصادي يلتهم القوت.

انهيار اجتماعي يلتهم الروابط.

انهيار أخلاقي يلتهم الأمل.هذه ليست حربًا عابرة، هذه جمهورية الخراب، حيث خطوط النار تتقاطع مع خطوط الفقر، والمعارك المسلحة تتشابك مع معارك البقاء على قيد الحياة.

الشعب الذي تحمل كل هذا يعلم الحقيقة القاسية:
من أوصلوا السودان إلى هنا — من سياسيين، ومليشيات، وأقوياء نافذين، وتجار حرب — لن يُغفر لهم، ولن يُنسوا، ولن يسقطوا من ذاكرة أمة دفعت ثمن بقائهم من دمها وجوعها وكرامتها.

السودان لا يسقط… السودان يُذبح، ويظل واقفًا، صامدًا، متحديًا كل الخراب

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole