✒️مقدمة: المؤلف وإشكالية الهوية في السياق السوداني
يُمثِّل كتاب “الهوية السودانية: تفكيك المقولات الفاسدة” (2015) للباحث السوداني غسان علي عثمان، حلقةً محورية في حقل الدراسات النقدية للهوية في السودان. يأتي هذا الكتاب في صميم هذا الانشغال، متمحوراً حول السؤال الهوياتي الأزلي والمُربك: “هل السودان بلد عربي أم إفريقي؟” – سؤال يرى عثمان أنه تجسيد لإشكالية أعمق تتمثل في هيمنة “مقولات فاسدة” شوهت الفهم الذاتي للسودانيين وعطّلت إمكانيات الوحدة الوطنية.
📚الأطروحة المركزية للمؤلف: تفكيك الثنائيات وهجنة الهوية
يُبنى الكتاب على أطروحة مركزية جريئة، وهي تفكيك ما يُسميه المؤلف “الثنائية الهوياتية البائسة” التي حصرت الخطاب حول الهوية السودانية في ثنائية جامدة ومتناحرة بين “عروبة” السودان من جهة و”أفريقيته” من جهة أخرى. يرى عثمان أن هذه الثنائية ليست سوى نتاج “عجزٍ عن فهم الهجنة الثقافية الثرية في السودان”، مما دفع الكثيرين إلى “الحل الأسهل بتقسيم الجسد الوطني بين روحين متنازعتين”. من هذا المنظور، لا ينشغل الكتاب بإثبات انتماء السودان إلى حقل ثقافي على حساب آخر، بل يسعى إلى تفكيك الأساس المعرفي الذي يجعل مثل هذا الاختيار الإقصائي ممكناً وملحّاً.
📌يتبع عثمان في نقده هذا مساراً متعدد المستويات:
1. المستوى الفلسفي واللغوي: يتميز منهجه، كما يلاحظ البروفيسور عبد الله علي إبراهيم في مقدمة الكتاب، بقدرة على “محاورة النصوص” بعمق، مع إيلاء اللغة ودورها المركزي اهتماماً خاصاً. فبالنسبة لعثمان، تلعب اللغة الدور “الأكبر والأساسي في طبيعة فهم الهوية”، إذ أن “الإنسان دون اللغة لا حقيقة له”. هذا التركيز يسمح له بتحليل الخطابات السائدة عن الهوية كأنظمة لغوية تنتج وتكرس مفاهيم معينة عن الذات والآخر.
2. المستوى الاجتماعي التاريخي: يربط المؤلف تفرع قضايا اجتماعية وسياسية شائكة مثل “الاستعلاء الجلابي” ومسألة “الرق” واستحضار “ذاكرة الزبير باشا المؤلمة”، بشكل مباشر بتلك الثنائية المقيتة التي أشعلت، في رأيه، “شرارة الفتنة الثقافية” وحجبت “الصورة الأرقى للوطن”. بذلك، ينتقل النقاش من مستوى التجريد الفلسفي إلى تحليل المظاهر الملموسة للصراع والتمايز داخل المجتمع السوداني.
🧠المنهجية: النقد الثقافي وتحليل الخطاب
يعتمد غسان علي عثمان منهجية تقع عند تقاطع النقد الثقافي وتحليل الخطاب. فهو لا يكتب تاريخاً تقليدياً للهوية، بل يمارس نقضاً (Deconstruction) للمقولات والتسميات والمفردات التي كوّنت الإطار السائد لفهم السودان. يتجلى تأثره بمشاريع نقدية عربية أوسع، لا سيما مشروع المفكر محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، والذي خصه عثمان بتحليلات عميقة. هذا التأثير يظهر في سعيه لتشريح البنى العقلية والخطابية الكامنة وراء إشكالية الهوية، مبتعداً عن السرد التبريري أو الانخراط في التوظيف السياسي المباشر للأيديولوجيا، وهي إشكالية يُشير إليها نقاد آخرون في كتابات بعض المثقفين السودانيين.
◼️سياق الحوار الفكري: عثمان في مواجهة تيارات التأسيس والتركيب
لا يمكن تقدير قيمة إسهام عثمان بمعزل عن السياق الفكري السوداني الأوسع. فطرحه الناقد للثنائية يلتقي جزئياً مع مشاريع مفكرين سودانيين رواد سعوا إلى تجاوز الإطار الثنائي البسيط. على سبيل المثال، يقدم محمد أبو القاسم حاج حمد تنظيراً يركز على “جدلية التركيب”، مؤكداً أن السودان هو “جماع لحظات” نوبية ومسيحية وإسلامية، وأن تركيب هذه اللحظات هو ما يسمح ببناء هوية جامعة. بينما يتجه حاج حمد نحو تركيب تاريخي-حضاري، يتجه عثمان نحو تفكيك خطابي-نقدي للبنى المفاهيمية ذاتها.
من جهة مقابلة، يقدم فكرٌ نقدي آخر، مثل فكر الباقر العفيف، تحليلاً يركز على ما يُسميه “الخلع الهووي”، أي التناقض الحاد بين الهوية العربية المدعاة للشمال السوداني وواقعه الجيني والثقافي الأفريقي، ويربط هذا التناقض بشكل مباشر بتفجّر النزاعات الأهلية كحرب دارفور. هنا، يختلف المسار عن مسار عثمان؛ فبينما يحلل العفيف الأزمة من خلال عدسة السياسة والصراع العرقي المادي، يركز عثمان على تفكيك الآليات الخطابية والثقافية التي تُنتج وتُشرعن مثل هذه الهرميات والصراعات في المقام الأول. كلا المنهجين يكمل أحدهما الآخر: فتفكيك الخطاب (عثمان) يشرح كيف تُبنى التصنيفات، بينما تحليل “الخلع” (العفيف) يظهر العواقب الواقعية المدمرة لهذه البنى.
⏺️تقييم نقدي: الإسهامات والحدود
يُعد كتاب “الهوية السودانية: تفكيك المقولات الفاسدة” إسهاماً مهماً للأسباب التالية:
1. تحويل السؤال الهوياتي: يحوّل النقاش من سؤال جوهري عن “ماهية” الهوية إلى سؤال نقدي عن “كيفية” تشكُّل الخطاب حول هذه الهوية، ومن ينتجه ولمصلحة من.
2. التشخيص الدقيق لإعاقة خطابية: يشخص بدقة عائقاً رئيسياً في الحوار الوطني السوداني يتمثل في استسلامه لمنطق الثنائيات الإقصائية، مما يفتح الباب لفهم أكثر تعقيداً للهجنة والتنوع.
3. ربط الفكر بالواقع الاجتماعي: على الرغم من طابعه النظري، يربط الكتاب بين الثنائيات المجردة ومشاكل اجتماعية وتاريخية ملموسة، كالرق والاستعلاء، مما يمنح نقده بعداً تطبيقياً وأخلاقياً.
📘لكن هذا الإسهام لا يخلو من حدود نقدية محتملة:
· طغيان التفكيك على إعادة البناء: بينما يبرع الكتاب في تفكيك “المقولات الفاسدة”، يبقى السؤال عن ملامح “المقولات الصحيحة” أو البديلة الجامعة أقل حضوراً. ما هي معالم الهوية السودانية “المهجنة” المتجاوزة للثنائية بعد عملية التفكيك؟ يقدم إطاراً سلبياً أكثر مما يقدم تصوراً إيجابياً مكتملاً.
· التركيز على الخطاب قد يطغى على المادة: قد يتهم النقد بأن تركيزه الشديد على مستوى الخطاب واللغة قد يقلل من الاهتمام الكافي بالعوامل المادية الصلبة في تشكيل الهوية والصراع، كالاقتصاد وتوزيع الثروة والسلطة، وهي عوامل تبرز بقوة في تحليلات أخرى مثل تحليل العفيف للنزاعات.
· حدود التأثير خارج النخبة: بقدر ما يمتاز النص بـ”إحكامه” و”صفائه”، فإن لغته الفلسفية ومنهجه النخبوي في النقد قد يحدان من قدرته على التحول إلى خطاب شعوي مؤثر في الوعي الجمعي العريض، الذي غالباً ما تتعامل معه الهويات عبر روابط وسرديات أبسط.
◼️خاتمة: الكتاب في سياق الأزمة الراهنة
في الختام، يمثل كتاب غسان علي عثمان عملاً تأسيسياً في ترسيم منهج نقدي صارم لمسألة الهوية السودانية. إنه لا يقدم إجابات سهلة، بل يزود القارئ بأدوات لفك الالتباس والتشويش المحيط بالسؤال. في ظل الاستمرار المأساوي للنزاعات المسلحة في السودان، والتي تُعيد إنتاج خطابات هوياتية متصلبة وعدائية، يبقى مشروع عثمان في تفكيك هذه المقولات ذا راهنية قصوى. تكمن قوة الكتاب في كونه دعوة إلى المصالحة مع التعقيد الذاتي للسودان، ورفضاً للاسترخاء إلى التبسيطات التي تفضي إلى الانقسام. رغم حدوده النظرية، فإنه يشكل خطوة ضرورية على طريق تفكيك “الفتنة الثقافية” وإعادة تصور “الصورة الأرقى للوطن”، وهي مهمة يبدو أن السودان، أكثر من أي وقت مضى، في أمس الحاجة إليها.



