لم يُنبئنا إدوارد سعيد في كتابه “الآلهة التي تفشل دائماً” عن مصير “المثقّف”، أي عن تلك النهايات التي يُمكن أن يبلغها، وشروط البقاء فيها، ولا عن مشاغله المُقبلة، وأعني تلك المكانة التي سوف يُدركها، أو الإمكانيّة التي سوف يَبلغها وفْقَ خارطة أحلامه، باعتباره كائناً حالِماً، أو حتّى عن مصيره في هذا العالَم، والذي كان “سعيد” من أكثر الأشخاص الذين اختاروا مُناكفتَهُ.
تحدَّث إدوارد عن وضْع المثقّف، مهمّاته، أدواره، وسجَّلَ أنّ “المهمّة بالنسبة إلى المثقّف هي العالَم” وإضفاء مدىً إنسانيّ أعظم إلى ما عانى منه عِرقٌ أو أُمّةٌ ما على وجه التخصيص، وربْط تلك التجربة بآلام الآخرين. وتكلَّم أيضاً عن مِهنته التي يراها: إيضاح، وتقديم أفكار ووجهات نظر، وتقويم إيديولوجيّات محدَّدة. فالمثقّف بالنسبة إلى إدوارد سعيد، هو صاحب الدَّور المحوريّ في إشغال المُجتمع الحديث، والمُتورِّط في قضايا الناس والبلدان، عدا الالتزام بالمبادىء والمُناقشات، بخاصّة في وسط التطوّرات والحراك الذي كان يتمتّع به في الساح الفكريّة والثقافيّة العالميّة، وعلاقته بالسلطة التي ألحّ “سعيد” على ضرورة قول الحقيقة لها.
كما قدّم أيضاً توصيفاً لتبيان سلوكه الإنسانيّ في المجتمع، ومن خلال ارتباطه على مستوى التفكير، حيث يبقى هذا الارتباط بوصفه ارتباطاً منحازاً ومتّصلاً بالأفكار والإيديولوجيّات التي ترتبط بالمصالح الموضوعيّة. لقد حاوَل تشذيب صورته، والحثّ الدائم على المضيّ في الطريق لكسْرِ التصنيفات المُختزلة التي تحدّ من التفكير الحرّ، والتواصُل الإنسانيّ المأمول. هذا “المثقّف” الذي يُمكن أن يكون مديراً، أستاذاً، صحافيّاً، خبيراً في الكومبيوتر، أو نصيراً لمجموعات الضغط، أو كاتباً لأعمدة في الصحف الكبرى، أو مُستشاراً لأيّ جهة من الجهات الفكريّة أو الثقافيّة أو العلميّة أو السياسيّة أو التربويّة المسؤولة…إلخ.
لكنّه كان يخشى على أدائه فقط، إذ لا شيء يقدر على تشويه مهمّةِ “المثقّف” ودَورِه الاجتماعيّ، بقدر ما يفعل الصمت، والتبجُّح، والتكيُّف، والاستحسان لتلك القوى المؤثِّرة والمؤسّسات الكبرى، وأفعالها التي تَنتهك المعاييرَ الإنسانيّة والأخلاقيّة. وكان يؤمن بأنّ انحراف “المثقّفين عن رسالتهم، لا يزال هو القضيّة ذاتها غالباً”. كان يخشى انحراف “المثقّف” باعتباره الكائن المَنفيّ، الهامشيّ، المُنصرِف عن مبادئه لمصلحة المؤسّسات الكبيرة والإعلام لأجل مُلاحَقة المال والنجاح السريع، ويُمكن أن يختفي في كتلةٍ كثيرة التفاصيل، أو أن يُصبحَ صورةً في وضْعٍ اجتماعيّ معيّن، كأن يكون حِرفيّاً وحتّى من دون مَلامِح.
مُراجَعة وتاريخ
في باريس، ومنذ العام 1889، قامت مجموعةٌ من الكتّاب والأدباء والجامعيّين برفْعِ مذكّرةٍ أَدانت خلالها التعامُلَ الذي طاولَ ضابطاً فرنسيّاً اتُّهم بالخيانة، بَدأ إذْ ذاك مُصطلح “المثقّف” بالظهور، وتمَّ التداوُل به، والتنظير له وحوالَيْه…إلخ. مصطلح “المثقّف” كان يؤشّر إلى دلالةِ اليقظة، ويشير إلى الموهبة وتحمُّلِ مشاغل كثيرة، لذا تمَّ رسْمُ مواقف له وتحدّياتٍ ووظائف، بغَرَضِ توكيد صورته وتمكين استمراريّتها.
ومنذ تلك السنوات، توافرت آلافُ الدراسات التاريخيّة والاجتماعيّة المُختلفة عن المثقّف، كما تكاثَرت الدراساتُ التخصّصيّة عنه “التي اقتفتْ على نحوٍ مُبرَّرٍ دَوْرَ المثقّفين في الحياة الحديثة”، حتّى أصبحت كلّ منطقة من العالَم قادرةً على إنتاج مثقّفيها. كان هؤلاء بتوجّهاتهم المُختلفة، مُعارِضين ونقّاداً: ليبراليّين، قوميّين، اشتراكيّين، مُحافظين، يُطلقون أفكارَهم عَبْرَ بياناتِهم وبرامجِهم، وتجاربِهم في التنظير والتأليف. وهُم الذين عملوا غالباً في الصحافة ومراكز البحوث والجامعات الخاصّة والرسميّة ومؤسّساتٍ اعتباريّة أخرى. وغالباً ما كانت توجّهاتُهم ذات طبيعةٍ علمانيّة. وكانوا أيضاً إيديولوجيّين، شارَكوا وأسّسوا ونظّروا لعقائد وأفكار مغايرة، إلّا أنّهم ما تخلّوا يوماً عن شكاويهم بكونهم مُغترِبين في هذا العالَم.
كانت أفكارُهم تُحاول الامتداد للوصول إلى الأبعد، مع التوصية بأن تغدو المفاهيم والأفكار أفعالاً تُترْجَم، من دون التردُّد في التبشير بطوباويّتِها لإحداث التغيير المأمول. المثقّفون غالباً مدنيّون، علمانيّون، لكن لطالما تتحوَّل الأفكار لديهم لتصير أيضاً ذات نزعاتٍ ووصايا متشدّدة. وقد انتهى بعضُها بالفعل كشراراتٍ لصراعاتٍ وثوراتٍ لا تُعَدّ، حَدثت في القَرن العشرين. اتَّهمها مُناهضوها بالإخفاق، وخصوصاً بَعْدَ تعرُّض الإنسان للامتهان وغياب الحريّة.. حريّته وحقّه بحياة تَليق به؛ فالبَشر لم يُطلّوا بعْد على الحياة والمعرفة الحقيقيّة التي يُمكن أن تخدم الإنسان، بوصفها وسيلةً تَحمل المعنى والحِكمة إلى العالَم، وعَبْرَ مشكلة الولاء التي “تُحدِّق على الدوام بالمثقّف وتتحدّاه على نحوٍ لا يَرحم”. هكذا تردَّدت ملامح المثقّف وصورته التي طَرَحَها إدوارد سعيد، على الرّغم من التوجُّس الذي يَغمر كتابته من مثقّفي “ما بَعد الحداثة”.. ومَيل التمنّي الآن هو إلى الكفاءة، لا إلى القيَم العامّة مثل الحقيقة والحريّة.
اختبار الحاضر
كان مصطلح “المثقّف” قد اضْطلَعَ بدَورٍ مؤثّرٍ في بداية ظهوره، وهو الدَّور نفسه الذي لعبتْه الحداثة، بل إنّ الأوّل كان نِتاجاً لها، بل كانت توصيفاً صَلباً تبنّاه الكتّاب والمؤلّفون والفنّانون والفلاسفة والمُحامون والمعماريّون المرموقون، وكلُّ صاحب رأي وقدرة على الكتابة، بوصفه تنويريّاً وعقلانيّاً بامتياز.. إضافةً إلى كونه ظاهرةً أخلاقيّة وفكريّة، تتردّد على المقاهي والصالونات الأدبيّة والنوادي الفكريّة.. كانوا في معظمهم على ارتباطٍ بالأفكار، أفكار الحداثة والتجريب في أسئلتها وبُناها التعبيريّة، حيث الأفكار هي العالَم، وهي مفتاح إلى فكرِ الآخرين القادرين على التخطيط العمليّ لمُستقبلهم وبناء مُجتمع الحداثة والتحديث.
إلّا أنّ مُصطلح “المثقّف” وبعد هذه السنوات الطوال من توصيف المواقف وتراتبيّتها، والتغيُّر الذي جرى، والذي يوصف بالتحوُّل الشديد لجهة العِلم، والسياسة، والإعلام، وظهور العالَم الافتراضيّ، وتأكيد مشهديّة “الما بعد” في العلوم الإنسانيّة، أصبح العالَمُ يَمضي في طُرُقٍ جديدة لم تَعُد معلومة، ومسائل معاصرة أصبح حلّها يحتاج الى جهودٍ تخصّصيّة دقيقة، من عالَم الهجرة الى البحث عن حلول لمصاعب الاحتباس الحراريّ. لقد بات مِثل هذا العالم اليوم يُواجِه تحدّياتٍ في ظلّ التحوّلات العالَميّة المُعاصِرة، السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والمعرفيّة.. حيث يَقف، الآن، مشدوهاً تجاه هذا التراكُم من المصاعب، بل أصبح كأنّه في حاجةٍ ملحّة لإعادة تعريف دَوره ومكانته، وفي جوٍّ فكريّ آخذٍ بالتقلُّص؛ كما أنّ الأفكار التي كان يؤمن بها في الماضي، قد تبدو عديمة الأهميّة راهناً.
عالَم تمَّ تخطّيه اليوم، سواء في واقع المؤسّسات والأكاديميّات التقليديّة، والتي كانت حاضنة له، أم في ظلّ ظهور مواقع وشبكات اجتماعيّة جديدة وعديدة، وتغيّرات منهجيّة في المعرفة باتت أكثر تخصُّصيّة، في مواكبة الإنتاج المعلوماتيّ الغزير، كما في زيادة التطرُّف والاستقطاب السياسيّ والاجتماعيّ، وحصول تراكميّة كبيرة في ما خصّ التطوُّر العلميّ والتقدّم التكنولوجي، وسيطرة ثقافة الاستهلاك، وظهور النزعة الفردانيّة والماديّة.
لكنْ، في ظلّ وجود مؤسّسات عدّة، مستقلّة، للبحث والتطوير، تَبرز في هذه المرحلة صورةُ إنسانٍ عمليّ آخر، تشارُكي، خرّيج الفضاء العلميّ، الإنسان “الباحث”، صاحب التخصُّص القادر على إجراء دراسات وأبحاث معمّقة في مجالٍ مُحدَّد، المهتمّ بالمنهجيّة العلميّة الدقيقة، ومُحاوَلة إنتاج معرفة تدّعي الحياديّة والموضوعيّة، وتُسهِم في حلّ أكثر المشكلات التقنيّة والعلميّة.. حيث تتوزّع في العالَم الآن، مشكلاتٌ مُختلفة وكثير من الأمور في خضمّ التقدّم التقنيّ والثورة المعلوماتيّة وما حملته وتَحمله من إشكالٍ جديد في الفعل الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ في مجالات عدّة، مثل الأزمات الاقتصاديّة، الأوبئة، الهجمات الإرهابيّة، الاحتباس الحراريّ، التغيُّر المناخيّ، الهجرة، الحروب وغيرها. إنّ الباحث الذي يعمل في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والطبيعيّة، هو القادر على فهْم هذه الإشكالات وتحليلها وتقديم رؤىً وحلولٍ لها.
فهْمٌ مؤجَّل
لم يَعُد “المثقّف” اليوم يَملك القرارَ الأخير، ولا السيطرة على كلّ هذه القوى، كما لا يَملك سلطةَ التعامل على حلّ هذه الأزمات التي باتت تواجه عالَمَنا. منذ انهيار جدار برلين في نهاية ثمانينيّات القرن الماضي، وجرّاء التطوّر الثقافيّ والفكريّ للإنسان، ولجهة بروز تخصّصات معرفيّة وتقنيّة جديدة ورائدة، أَثْرَت بوجودها اهتمامَ الإنسان، ومحاولة معرفته بها، ما خلقَ تحوّلاتٍ ملموسة في الاتّجاهات الاجتماعيّة والثقافيّة والعلميّة، بمقدار توليدها التحدّيات والصراعات الراهنة في النّظام العالميّ.
ثمّة فهْمٌ مؤجَّل أو حتّى مُهمَل، بات يحيق بـ “المثقّف” مع تعدُّد الخطابات السابقة بحقّه، بوصفه حاملاً للفكر وقادراً على التنوير أو النقد.. أو محاولة تجديد دوره في خضمّ الثورة المعلوماتيّة، وما حملته من إشكالٍ فكريّ وانشغالٍ جديد للفعل الاجتماعي. عدا التحوّلات السريعة التي اكتسبتها الصورة في مجال الإعلام، وفي زمن الوثيقة الرقميّة التي عرفتها شبكات التواصُل الاجتماعيّ، وعولمة الأزمات، ما دفع أو ساعد على اندحار الحياة الفكريّة المعاصرة، وصعود ثقافة مغايرة باتت تُروِّج للتعامل مع الضآلة والسطحيّة النرجسيّة في زمن ما بعد الحداثة هذا.. وما بعده، والذي أصبح سلطةً عقلانيّة للقهر الاجتماعيّ، والترويج لإغواءات المجتمع الاستهلاكيّ.
لا شك أنّنا بتنا نلمس مستوىً جديداً من التفكير. وذلك ما جَعَلَ “المثقّف” يتنحّى جانباً، لـ “الباحث”، الكائن الفائق التخصّص، غير المُتطلّب، الصامت، المواظب، والذي لا يهتمّ تماماً بتأليف “الكُتب”، أو يؤسِّس للتجمُّعات والجماعات، قدر ما يسعى لتقديم “ورقته العلميّة”، سواء بمفرده أم مع بحّاثة آخرين. وهو في الجانب الآخر أيضاً، العامل أو المدعوّ من مركز أبحاث أو مؤسّسة أكاديميّة أو علميّة، كما أنّه غير مَعنيّ بمختلف التحوّلات التي تحصل في العالَم، عدا تخصّصه. إنّ أفكاره وممارساته لا تعدو أن تكون صدىً لطبيعة العصر الراهن، الكثير التعقيد والالتباس: الحياديّة!
أفترض أنّ مكانة “الباحث” هي المؤهَّلة الآن لأن تغدوَ في الصدارة.
*كاتب وباحث من العراق




