الدكتور عثمان السِّيد محجوب و”الساعة الخامسة والعشرون”؟ أحمد إبراهيم أبوشوك (1)

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: “قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا *** كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا *** أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي *** يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا”. يحمل كل الطلبة الأوفياء في صدورهم تقديراً صادقاً لأمثال هؤلاء المعلمين الرُسُل، الذين أوفوا الكيل في تعليمهم وتربيتهم. ويوجد دائماً بين نظرائهم معلم متميز، تظل صورته متقدة في أذهانهم، وعباراته التعليمية، ومواقفه التربوية، ونكاته الفكهة عالقة في ذواكرهم، وذواكر الطلبة الذين يأتون من بعدهم. ومن أمثال هؤلاء المعلمين الأجلاء الدكتور عثمان السِّيد محجوب، الذي عمل معلماً لمادة التاريخ بمدرسة كورتي الثانوية، ووقتها كنا طلبة بمدرسة كورتي المتوسطة (1976-1979)، التي لا تبعد جغرافياً عن مدرسة الثانوية للبنين؛ لكن لم يحالفنا الحظ لدراسة مادة التاريخ على يديه؛ لأنه غادر المدرسة قبل التحاقنا بها إلى مدرسة عطبرة الثانوية الحكومية. بَيْدَ أنَّ الطريف في الأمر أن الطلبة الذين عصرناهم في الثانوية، يذكرون دائماً معلمهم الألمعي بالخير، يؤكدون بأنه صاحب طريقةٍ جذَّابةٍ، وأسلوبٍ سلسٍ ومُشوِّقٍ في تدريس مادة التاريخ، وصاحب معرفة واسعة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية المجاورة لها. ويستشهدوا بأنه كان يفتتح حصصه بأبيات مختارة بعناية من عيون الشعر العربي أو انتاجه الشعري الرصين، أو من مأثورات الفلاسفة أو المؤرخين العظام، التي لها مقاصدها التربوية السامية لتوجيه أخلاقيات طلبة العلم. ومن تلك العبارات المبهرة التي ظل يرددها طلبة كورتي الثانوية: “من راغب الناس مات هماً، الزم الصمت وأفعل ما تشاء”؛ و”الساعة الخامسة والعشرون”، التي يُعرِّفها بقوله إنها تمر بحياة كل إنسان، فيدركها العاشق عندما يلتقي بمحبوبته، والطالب عندما يحقق النجاح الذي ينشده، والمسافر عندما يؤوب من رحلة سفره الطويلة. يبدو أنَّ الأستاذ عثمان السيد قد نظر إلى الساعة الخامسة والعشرين نظرة إيجابيةً ونقيضةً لنظرة قسطنطين جيورجيو في روايته الشهيرة “الساعة الخامسة والعشرين”، التي تعكس طرفاً من مأساة بعض الشعوب الأوروبية في ظل الأيديولوجيات الشمولية والكراهيات العِرْقِية والحروب العبثية، محللةً نفسيات الضحايا الذين أصبحوا جلادين، كيف فتحوا آفاق الأذى في وجوه جلاديهم الأوائل والأبرياء من دونهم، وكيف حولوا حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، وجعلوا الساعة الخامسة والعشرين، بعد الساعة الرابعة والعشرين الأخيرة، ساعةً عديمة الجدوى، لا تجدي “عودة المسيح الثانية” فيها فتيلاً؛ لأن كل محاولات انقاذ الضحايا الجدد باءت بالفشل وأضحت عديمة الجدوى. وللأسف يعيش السودان الآن فصلاً أشبه بفصول الساعة الخامسة والعشرين المأساوية! نسأل الله أن يميط الأذى ويرفع الضيم ويعيد السلام والأمن إلى ربوع البلاد ويُسكِّن روع العباد.

ويصف طالب الهادي الشغيل خريج مدرسة عطبرة الثانوية الجديدة، أسلوب معلمه الفطحل عثمان السيد في التدريس بالأسلوب “الشيق والممتع والسهل الممتنع في ايصال المادة التي يدرسها”، كما ذكر أفضاله في تعليمهم “حب الاستطلاع والاندهاش” عندما يبحر بهم في محيطات التاريخ والفلسفة، ويحدثهم أحياناً عن شخصيات نادرة أمثال عباس بن فرناس (810-887 م)، الفيلسوف والشاعر والمخترع المغربي الأصل الملقب بحكيم الأندلس، الذي حاول الطيران بأجنحة صناعية من الريش والخشب؛ ولكنه فشل، فتثميناً لمحاولته الجريئة، نصبت الحكومة العراقية له تمثالاً تذكارياً في عقد السبعينيات في مدخل الطريق المؤدي إلى مطار بغداد الدولي.

(2)
التقيتُ للمرة الأولى وجهاً لوجه بالدكتور عثمان السيد في مدينة الدوحة في العام 2023، حيث إقامته الكريمة مع ابنه سارية الذي يعمل في مدينة الخور. وكانت سانحة طيبة، أن أهديت له نسخةً من كتابي الموسوم بـ “العمدة أحمد عمر كمبال (1915-1995): ملامح من تاريخ كورتي وشذرات من سيرة الرجل”. وقرأ الدكتور عثمان الكتاب بأعجابٍ شديدٍ، وقرظه تقريظاً حسناً، ولخص محتوياته في رسالة أدبية عالية جودة، ختمها بقوله: “لقد كان لزاماً عليَّ إسداء الشكر والتقدير للأخ أبوشوك، الذي كان له فضل ايقاظ تلك الذكريات الحلوة الحبيبة، التي عشناها بين ظهرانيهم في مؤسسات التعليم بكورتي (1974-1977)، ولازلت أذكر من زملائي الأساتذة: الناظرين: عبد الله محمد خير (1973-1976)، وعباس محمد نصر (1976-1980)، ومن أساتذة المدرسة الثانوية آنذاك فاروق الطيب، وحسن رحمة، وأحمد الشيخ … كما وجدت في الكتاب صورة لصديقي الأستاذ عوض رحمة (ص 571) إلى جانب العمدة [أحمد عمر كمبال] ومحمد الحسن دياب (ود الدانقة). ولا أنسى وكيل البوستة عثمان فرح السيَّد الموظف الأديب الأنيق”.

(3)
تفضل الدكتور عثمان السيد مشكوراً بزيارتي في مقر إقامتي المتواضع بالدوحة يوم السبت الموافق 18 نوفمبر 2023، وحضر اللقاء ثلة من الأصدقاء والأحباب، الذين ابهرهم بثقافته الواسعة وحدس الأدبي الرفيع، وعقله الذي ينضح بذكريات كورتي الجميلة. وكان نجم الحضور طالبه النجيب الدكتور محمد المدثر أحمد عثمان، الذي يعمل حالياً بمؤسسة حمد الطبية، والذي درس مادة التاريخ على يديه بمدرسة كورتي الثانوية في عقد السبعينيات من القرن العشرين. وطارح المدثر أستاذه في كثير من القضايا والمواقف التي تكتنزها ذاكرته المتقدة، ومن ضمنها قصيدته الجميلة التي مطلعها “الحق أقول لكم”.
الحق أقول لكم
في صدق وطهارة
الحق أقول لكم في ألم ومرارة
الحق أقول لكم مرات ومرارة
الحق أقول لكم في بوح وجسارة
وكل ربيع نحن ثرثار أو ثرثارة
***
ماذا تنفع …؟ ماذا تجدي …؟
أفعال لزوم وتعدي
تمضغها الأفواه كي تؤذي
***
ماذا تنفع … ماذا تجدي
كوثر أصغر من مجدي
خالد أشيك من بكري
ماذا تنفع… ماذا تجدي؟
***
ماذا لو أن الدنيا عشناها أملاً وتصدي؟
ماذا لو أن الباحة ملأناها زهراً وتبلدي؟
لا عبر اللفظة الثرثارة
لا عبر الكلمة المنهارة
لكن عبر الرابض في جوفي … في جوفك
قنديل محبة وطهارة
عبر الماثل في وجهي .. في وجهك
في الليل .. كالفجر منارة

(4)
والحق أقول لكم أن هذه القصيدة كانت ثمرة من ثمار الجلسة الماتعة التي قضيناها استماعاً في رحاب الدكتور عثمان السيد، وأهديها إليكم أيها الأساتذة الأجلاء والزملاء الأوفياء بمدرسة كورتي الثانوية للبنين بكل بوحٍ وجسارةٍ، كما أهديها إلى أهلنا الطيبين الأخيار بمدينة كورتي وضواحيها، الذين بادلناهم الأيادي سلاماً وطعماً، فأحسنوا وفادتنا، وضاعفوا الكيل صاعين، وعفوا عنا عند المقدرة، وفرحوا بنجاحاتنا، وفَخِرُوا بانتسابنا إلى مدرستهم العريقة.

مقالات ذات صلة