بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة التاسعة
تكوين الدعم السريع
رأينا سياسة حكومة الإنقاذ في استغلال التناقضات المحلية والاستعانة ببعض المكونات والتحالف معها ضد حركات التمرد المسلحة. ورأينا تذمر تلك المكونات الحليفة عند شعورها باستغلال الحكومة لها عند الحاجة إليها والتخلي عنها إذا انقضت تلك الحاجة. جربت المجموعات العربية ذلك في قتالها مع الحكومة في حرب الجنوب ثم تخلي الحكومة عنها بعد اتفاق نيفاشا، وفي قتالها مع الحكومة في الحرب ضد حركات التمرد المسلحة وتخليها عنها بعد اتفاقية أبوجا. ورأينا تكوين الحكومة لقوات حرس الحدود من قبائل الأبالة وتكوين شرطة الاحتياطي المركزي والتي تم استيعاب بعض العرب الأبالة فيها، هذا فضلاً عن القوات الأخرى مثل الشرطة الشعبية والشرطة الظاعنة ( البدوية).
وبعد انفصال الجنوب وذهاب عائدات النفط صارت الحكومة في أضعف حالاتها، وكانت قدرة الجيش متدنية وثقة الحكومة فيه أيضاً متدنية. وفي المقابل كانت المليشيات العربية المتحالفة مع الحكومة في حاجة لتقنين وجودها النظامي خوفاً من الملاحقات الدولية على الانتهاكات التي ظلت ترتكبها في المجتمعات المحلية.
ساهمت هذه العوامل على تكوين قوة مُحسّنة شبه نظامية في منتصف 2013 وتم تسميتها ( قوات الدعم السريع). بدأت تلك القوات تحت جهاز الأمن والمخابرات تحت قيادة اللواء أمن عباس عبد العزيز وكان قائدها الميداني هو محمد حمدان دقلو ( حميدتي ) القائد الميداني لقوات حرس الحدود والذي منحته الحكومة رتبة العميد. وكل هؤلاء كانوا تحت قيادة هيئة العمليات ومديرها اللواء علي النصيح القلع.
تكونت قوات الدعم السريع من حرس الحدود وجنّد حميدتي أغلب جنودها من دارفور من العرب ولكن شارك آخرون من قبائل أخرى ومن أجانب من تشاد والنيجر.
واختيرت القوات المثيرة للقلاقل والأقل إخلاصاً للحكومة وضُمت للدعم السريع بغرض التحكم فيها، ولمنع تمردها نُقلت قوات منها خارج اقليم دارفور خاصة لجنوب كردفان لمحاربة قطاع الشمال في الحركة الشعبية.
أما في جنوب كردفان فقد كانت مليشيات القبائل العربية في المنطقة والمنضوية تحت مسمى الدفاع الشعبي حانقة على الحكومة بعد انتهاء حرب الجنوب بسبب تخلي الحكومة عنهم وعدم دفع الرواتب وتعويضات الشهداء في قتالهم ضد الحركة الشعبية قبل اتفاقية السلام، فانضم بعضهم لحركة العدل والمساواة وبعضهم للحركة الشعبية قطاع الشمال. وعندما جلبت الحكومة قوات الدعم السريع من دارفور كما ذكرنا سابقاً لجنوب كردفان قامت بارتكاب انتهاكات ضد المسيرية في يناير 2014 في منطقة الخرصانة، وفي نفس الفترة وقع صدام آخر بين قوات الدفاع الشعبي ( المكونة من المسيرية) والدعم السريع المكون في غالبه من الرزيقات، ونتيجة لتلك الانتهاكات انضم معتمد محلية كيلك اللواء (م) بندر ابراهيم أبو البلول لحركة العدل والمساواة.
وفي يناير 2014 تم تعديل دستوري يمنح جهاز الأمن والدعم السريع وضعية القوات النظامية وكانت اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية (نيفاشا) قد جعلت من جهاز الأمن تكويناً مدنياً وحصرت مهامه في جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة للجهات المعنية وتم تضمين ذلك في الدستور.
وعند قدومها لمناطق السودان الأخرى قامت قوات الدعم السريع بانتهاكات واسعة في تلك المناطق أدت لانتقادات من الامام الصادق المهدي رمز المعارضة المدنية الأكبر للنظام مما أدى لسجنه واتبعه إبراهيم الشيخ رئيس حزب المؤتمر السوداني بانتقادات أدت لسجنه أيضاً. لم يقتصر نقد الانتهاكات على المعارضة إذ شملت قائمة المنتقدين أحمد هارون والي شمال كردفان الذي أمر قوات الدعم السريع بمغادرة الولاية مما أحدث شرخاً في النظام. انتهى ذلك بإعادة القوات لدارفور مرة أخرى حيث عملت على القضاء على حركات التمرد في الفترة من 2014- 2016.
ففي يناير 2015 انتصر الدعم السريع على حركة تحرير السودان (مني مناوي) في معركة ( فنقا) بجبل مرة، وفي أبريل 2015 انتصر الدعم السريع على حركة العدل والمساواة في قوز دنقو في جنوب دارفور.
وبعد هذه الانتصارات الساحقة علا نجم حميدتي وصار البشير يعتمد عليه في تثبيت أركان حكمه ضد معارضيه المسلحين بل اعتمده ترياقاً يمنع انقلاب زملائه في الجيش أو في تنظيم الحركة الاسلامية. وبدأ البشير في تقوية الدعم السريع وافتخر في كلمته بمناسبة تخريج 11 ألف مقاتل من مجندي الدعم السريع ، افتخر بأن أحب القرارات وأفضلها له هو قرار تكوين الدعم السريع ( صحيفة الشرق الأوسط 14 مايو 2017) وصار يسمِي حميدتي حمايتي.
وفي 2016 أصدر البشير مرسوماً رئاسياً يضع قوات الدعم السريع تحت إشراف رئاسة الجمهورية. وفي 2017 أصدر البرلمان قانون الدعم السريع وهو قانون به غموض حيث أعطى الدعم السريع إستقلاليةً وفي نفس الوقت وضعه تحت القوات المسلحة ولكن بقيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو رئيس الجمهورية. وبهذا صارت قوات الدعم السريع قوة ثالثة مع القوات المسلحة وقوات جهاز الأمن والمخابرات. نجح البشير في وضع الدعم السريع تحت إمرته وإبعاده من الجيش وجهاز الأمن والمخابرات حتى يقوم بحمايته من أي انقلاب عسكري.
اكتشف حميدتي منذ وقت مبكر أن الجيش والبشير والنظام يعتمدون عليه كقوة ضاربة بل صرح بذلك على الملأ في قضية اعتقال الامام الصادق المهدي معيّراً الحكومة بأنها بلا جيش وأن الكلمة الفصل صارت عنده.
ولد حميدتي المقاتل الطموح في 1973 وعمه جمعة دقلو زعيم فرع أولاد منصور التابع للرزيقات الماهرية. قدِم عمه جمعة دقلو ( حسب مصادر كثيرة سودانية وغربية وتشادية) من تشاد أثناء الجفاف وفي رواية بعد بطش حسين هبري بالقبائل العربية في شرق تشاد، مثل كثير من أقرانه حيث لا تعرف القبيلة الواحدة الحدود السياسية نسبة للتداخل القبلي بين البلدين ( انظر على سبيل المثال مقال ماذا تريد فرنسا من تشاد؟ بقلم الناشط السياسي التشادي/ محمد البطحاوي وكذلك تقرير برنامج مسح الأسلحة الصغيرة بعنوان: التقسيم عن بُعد: القوات السودانية شبه المسلحة والميليشيات الموالية للحكومة أكتوبر 2017 ).
استقرت الأسرة أولاً في شمال دارفور ثم انتقلت إلى جنوب دارفور في 1987 وفي 2003 تم تعيين حميدتي أميراً في حرس الحدود وفي 2008 عيّن مستشاراً أمنياً لوالي جنوب دارفور عبد الحميد موسى كاشا كما ذكر حميدتي في إحدى مقابلاته. وعند تكوين الدعم السريع في 2013 صار القائد الميداني وأُعطي رتبة العميد. ولكن مشاكل وانتهاكات الدعم السريع لم تتوقف بعد رجوعه لدارفور ففي منتصف 2016 طالبت قيادة القوات المسلحة العاملة في دارفور بإبعاده من جبل مرة بسبب انتهاكاته الكبيرة ضد المدنيين وفي نوفمبر 2016 حدث توتر ومناوشات بين الجيش والدعم السريع هناك.
تمدد الدعم السريع في عهد البشير: اقتصاد وعلاقات خارجية مستقلة:
– ومع تفضيل الحكومة للدعم السريع ومع توسع امكاناته المادية والعسكرية صار الدعم السريع جاذباً للمقاتلين من المليشيات الأخرى والدفاع الشعبي وحتى المنتدبين من الجيش وجهاز المخابرات.
– في نوفمبر 2014 أطلق الاتحاد الأوربي عملية الخرطوم (Khartoum Process) وهي برنامج لوقف الهجرة غير الشرعية لأوربا، وأنشأ صندوقاً لهذا الغرض بقيمة 2 مليار يورو في 2015. قدم الاتحاد الأوربي المال والتدريب لقوات الدعم السريع مما أتاح لها اعترافاً دولياً وتمويلاً وتدريباً (أنظر مقال لويس سولفيان المنشور بموقع {معلومات حول مكافحة الهجرة } بعنوان:
Khartoum Process: The context in which the Khartoum process was conceived
written by: Louise Sullivan
– اتجه النظام مكرهاً تحت الضغط الاقتصادي بعد انفصال الجنوب وذهاب عائدات النفط نحو دول الخليج وقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران. وحينما نشبت حرب اليمن ( عاصفة الحزم) بين التحالف الخليجي وحركة أنصار الله ( الحوثيين) في 2015 استعان التحالف بالنظام السوداني الذي زوده بمقاتلين من الجيش وقوات الدعم السريع. أتاحت مشاركة الدعم السريع في حرب اليمن تمويلاً خليجياً جعله جاذباً للشباب والمقاتلين فزادت وتيرة التجنيد لصفوفه، وخلقت له علاقات مالية وعسكرية مباشرة مع السعودية والامارات متجاوزة القيادة السياسية والعسكرية لنظام الانقاذ حيث عقدت الإمارات مع الدعم السريع صفقة مباشرة لإرسال قوة أكبر. قاتل حميدتي مع الامارات في اليمن كما قاتل معها في ليبيا كما ذكر هو نفسه في خطاب جماهيري في 2017 في احتفال تخريج إحدى الدفع.
فتنة ذهب جبل عامر :
حينما ظهر الذهب في جبل عامر 2012 استولت قوات موسى هلال عليه وقتلت أهل المنطقة من قبيلة بني حسين وطردتهم من الجبل. بدأت خلافات موسى هلال مع الحكومة منذ وقت مبكر ( في 2005)، وكانت له خلافات كبيرة مع حميدتي بعضها قبلي (بين عشيرتيهم المحاميد والماهرية)، وبعضها بسبب التنافس.
صار ذهب جبل عامر نقطة جذب لمجموعات مختلفة: قوات المحاميد بقيادة موسى هلال والدعم السريع ونخبتها من الماهرية وأهل الدار قبيلة بني حسين ومجموعات كبيرة من الأجانب الباحثين عن الثروة وحكومة الانقاذ وقادتها الفاسدين. ففي يناير 2017 طلب النائب البرلماني اللواء (م) الهادي آدم حامد نائب دائرة (السريف بني حسين) التي تضم جبل عامر من وزير الداخلية الإجابة عن سؤال عن من يسيطر على جبل عامر؟
وفي رده على السؤال أوضح وزير الداخلية السوداني عصمت عبد الرحمن أن بالجبل تواجداً أجنبياً مسلحاً وقدّر تواجد المسلحين الأجانب والسودانيين في جبل عامر بإقليم دارفور بثلاثة آلاف مسلح وطالب الحكومة بإجلاء هؤلاء لأن إمكانياتهم العسكرية أكبر من إمكانيات الشرطة. أثار حديث الوزير غضب موسى هلال زعيم المحاميد وحميدتي قائد الدعم السريع الذَين قاما بنفي حديث الوزير ولم يلبث الوزير إلا قليلاً حتى أقاله الرئيس البشير فقد كان حميدتي في تلك الفترة صمام أمان البشير كما سنرى في الحلقة القادمة إن شاء الله.
وكانت الحكومة بعد تطور خلافها مع موسى هلال قد شكلت لجنة عليا
لجمع السلاح والعربات غير المقننة برئاسة نائب الرئيس السودانى، حسبو محمد عبدالرحمن، الذي أكد أن الحكومة لن تتهاون في حملتها لجمع السلاح، مشيرا إلى أن توجيهات صدرت بـقتل من يقاوم هذه الحملة مستخدماً التعبير الانجليزي shoot to kill .
رفض موسى هلال ذلك القرار ومنع الحكومة من الوصول لجبل عامر فقامت قوات الدعم السريع بشن هجوم عليه واعتقلته في نوفمبر 2017 واستولت قوات الدعم السريع على مناجم جبل عامر بصورة كاملة.
ونواصل غداً إن شاء الله بحلقة عن الدعم السريع وثورة ديسمبر
عبد الرحمن الغالي