تواترت واقعتان في الأسبوع الماضي شديدتا الصلة بسياسات الأرض ونزاعاتها في منطقة الساحل الأفريقي، والتي هي أصل الحرب القائمة في السودان حالياً. فقد كتبت الـ”فورين بوليسي” تتساءل في عنوانها إن كانت غانا هي الهدف التالي لحركة الجهاديين. كما تخطفت الصحافة تقرير الـ”واشنطن بوست” في 20 مايو “دول شمال أفريقيا ترمي بالمهاجرين في الصحراء بدعم من الاتحاد الأوربي”.
أثارت المقالتان قضايا لا غناء عنها متى أردنا تحسين معرفتنا بالهجرة الأفريقية من ساحل القارة بخاصة، إذ رفعتا عن هذه الهجرة الحجاب الذي أسدله عليها التركيز المبالغ فيه على دراسة وجهتها الأوروبية وعواقبها، كأنه لا مسارات لها داخل القارة. وأثارتا كذلك عامل الهوية في دراسة هذه الهجرة، ونعني بذلك النزاع على الأرض بين المزارعين والرعاة، والذي تزيد سياسات الدولة حياله من ضراوته.
أثار تقرير الـ”واشنطن بوست” مسألة بؤس دراسات الهجرة الأفريقية من زاوية تركيزها على وجهتها الأوربية وذيولها من دون وجهاتها الأفريقية. فعرض لدافع الاتحاد الأوروبي لتمويل دول شمال أفريقيا لإلقاء المهاجرين الأفارقة في الصحراء، وهو الأمر المنافي لحقوق الإنسان. لكنها خطة، في قوله، أملتها سياسات أوروبية داخلية أرادت بها قوى الوسط ويمين الوسط الأوروبي وقف زحف الدوائر اليمينية إلى سدة الحكم في دول الاتحاد، من فوق موجة العداء العام للهجرة الأفريقية إلى أوروبا، والتي تعالت في العقد الأخير وصخبت. وهذا الإجحاف الأوروبي بطالبي الهجرة الأفريقيين هو ما أراد به الوسط ويمين الوسط ألا يبدو أقل صرامة بوجه هذه الهجرة من دون اليمينيين. وعلق أحدهم على أن الاتحاد الأوروبي بذاك اقترب قليلاً قليلاً من فنتازيا اليمين المتطرف، الذي يريد أوروبا قلعة لا تخترق أسوارها. ولم يعد الاتحاد الأوروبي، وهو يقف وراء هذه الانتهاكات بحق طالبي اللجوء، يتذكر مذهبه في الحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان، بعد أن أوكل لحكومات غيره أن تكون ديدباناً شديد النكال بالمهاجرين عند بوابته.
وخبر الـ”واشنطن بوست” مع ذلك لا يخرج عن النظرة التقليدية للهجرة الأفريقية وكأنها لوجهة واحدة هي أوروبا. وهي النظرة التي خرج بنجامنسن لنقضها. فالهجرة الأفريقية داخل أفريقيا، التي كان السودان ميداناً لها عبر بوابة دارفور، أغزر بكثير من تلك التي مقصدها أوروبا. فلا تزال هجرة 80 في المئة من الأفارقة إلى أكناف أفريقيا، حتى مع ازدياد وتائر الهجرة من أفريقيا إلى أوروبا منذ 2015. ولهذا التحيز بقيت دراسة الهجرات الداخلية في القارة بلا أسبقية لها في البحث. ولا يزال الفهم يقضي بأن الهجرة الأفريقية استثنائية وغير تاريخية
وجد بنجامنسن في تبرم أوروبا من الهجرة الأفريقية لؤماً منها. واتجه لوضع الهجرة الأفريقية في سياق تاريخي عريض. فقارة مثل أوروبا كانت الهجرة منها وفي أنحائها هي التي أسعفتها على تجاوز أزماتها الاقتصادية. إذ هاجر بين 1850 و1914 أكثر من مليون أوروبي إلى أميركا الشمالية وأستراليا هرباً من الفقر والمجاعة. وهاجر في الوقت نفسه أوروبيون كثيرون في داخل أوروبا طلباً للفرج الاقتصادي. مثلاً هاجر الإيطاليون إلى فرنسا وسويسرا وألمانيا. وهاجر الإيرلنديون إلى إنجلترا وإسكوتلندا، والبولنديون إلى ألمانيا. وأسعفت تلك الهجرات كل من إيطاليا وإيرلندا اللتين كانتا في حال عسر هضم ديموغرافي. ولم تصبح أوروبا دولة المهاجرين منها إلى الخارج أكثر من المهاجرين في داخلها إلا في السبعينيات. وهذا تاريخ في الهجرات وأشراطها الاقتصادية والديمغرافية لا يطرأ في دراسة الهجرة الأفريقية. فالتركيز على هجرة الأفريقيين إلى أوروبا لا يصيبنا بعلم عنها لا ينفع فحسب، بل نرتكب به سياسيات غير مجدية حيالها. فأفريقيا، المدمجة في الاقتصاد العالمي، بحاجة إلى متنفس كالذي تمتعت به أوروبا خلال أزماتها الاقتصادية يلطف من الآثار السالبة لزيادة سكانها وتردي مواردها. وبغير تأمين هذا المتنفس لزيادة السكان في أفريقيا نعرض أمنها للأخطار.
وهكذا فسياسة الاتحاد الأوروبي لاحتواء الهجرة قد تقود إلى عدم الاستقرار في أفريقيا. قد تنجح سياسة الاحتواء في خفض عدد الأفارقة المهاجرين إلى أوروبا، لكن الضغوط على الأفريقيين للهجرة إلى بلدان أوروبا ستبقى طالما ظلت حال أفريقيا على سوئها. وستكون عواقب هذا الفيض من المهاجرين وخيمة على القارة. فمهما نمت دولها فإنه ليس بوسع سوق عملها استيعاب من أرادوا دخوله. ومن لم يهاجر بقي في بلده فقيراً ضجراً ومصدراً محتملاً للاضطرابات وانفراط الأمن. وعليه ففرص أفريقيا للنمو تتناقص إذا لم يتوافر لها متنفس الهجرة منها إلى غيرها. وهو ما أنقذ أوروبا ذات يوم.
لا أعرف إن كان لا بد لنا في السودان من خوض حرب لنعرف أننا لم نكن بحاجة لنكون ضحايا ظاهرة هجرة الساحل والصحراء لو أمسكنا بأزمتها بدلاً من الاستثمار فيها أو الاحتجاج عليها. لكنني أعرف مثلاً يسخر ممن يحمل مسألة بلا علم بها، وهو مثل ذائع من دارفور، مسرح حربنا الأول، يقول “شايل جبل مرة بلا وقاية”، أي يحمل ثقلاً في حجم جبل مرة (الجبل المهيب الذي يتوسط الإقليم) بغير وقاية (وهي لفافة القماش التي يضعها المرء على رأسه لتكون وقاية له من الملامسة المباشرة لجرة ماء أو حزمة الحطب التي عليه).
*منقول من صفحة د. عبدالله علي ابراهيم*