و كما أن لكل زمانٍ دولةٍ ورجال، لكل بلادٍ كذلك أهلها وعرفهم وعاداتهم ولسانهم،وللشعوب نكباتها الباقية في ذاكرتها ولكل حربٍ تبعاتها، ومن تبعاتها مؤكد أن القديم لن يُعود و أن النفوس تخرب كما المباني و البيوت و أن الساقط يرتفع و يفقر أهل الغنى، إلا أنّ الناس بعد حربهم من أجل المستقبل يجتهدون، الحروب تُدمر إلا أن الأوطان دائما تُبنى من جديد، تُبنى و تزدهر، وسنبقى نحن شهوداُ على حرب الدمار هذه عند القادمين، لا محالة ستنتهي، ربما نفاوض الآن والنتيجة آلا سودان وربما نكمل الحرب حتى بسط الهيبة وإستعادة الدولة و عندها ربما نفاوض أيضا، إلا أن الفرق بينها عظيم ، الفرق هو وجود الدولة أو ذهاب ريحها ، و الآن نحن نحس النصر القريب فالدولة باقية و أهلها قطعا عائدون .
الحرب تقلّب الأحوال و تشتت الأمر وتبدل الواقع و تغير الناس، وترفع قدر السفهاء وتُنطق الجهلاء و يختلط الباطل مع الحق.
ولولا الحرب الدائرة الآن لما رأى الكثيرين جبيت ذات الجبال ولا أضطروا للسفر البري إليها بالساعات الطوال حتى تورم القدمين، ولا العبور عبر ممراتها الضيقة المتعرجة الملتوية المخيفة المفروشة بالحصى المحاطة بالجبال الشاهقة وكأنها ستطبق عليك، وعلى صخورها القريبة من الارض منقوشة عبارات العابرين المذهولين بذلك الإرتفاع، ولا كنا راينا العقبة ولا تلك الهاوي ولا السهل ولا مساكن الخيام ، فجبيت في الذاكرة السودانية هي معهد المشاه و دورات الترقي الحتمية في الجيش السوداني.
إلا أنها الآن أكثر من ذلك، صرنا نعرفها أكثر، فجيت هي الطقس المعتدل و ملجأ الشرق ساعة إلتهاب الرءوس بالحر كما سنكات، وجبيت هي ذاكرة التدريب و تمارين صعود الجبال و كشف الصمود، وجبيت الآن هي ذاكرة التاريخ في محاولة إغتيال قائد الجيش وضح النهار وتحت الضوء ووسط الجبال محاطاً بجنوده ، القائد الذي إستعد للموت ببندقيته القانصة وبالحضور. ما الذي يحدث عندما يُغتال القادة والرءوساء، حدث ذلك كثيراً كما يشهد التاريخ، هل حدث عندنا من قبل؟
ولولا الحرب لما عرف الناس أسماء المحطات المنتشرة على طول طريق الشرق، ولا حدود الولايات بين الخرطوم و نهر النيل و البحر الأحمر وتغير المناخ عند خطوطها الفاصلة من الخضرة إلى الجفاف و من السهل إلى الساحل، ولا أسماء الجبال ، ولا بؤس قهاوي طرقات السفر، ولا سوات الطريق و لا تنوع المدن والألسن والعادات والمساكن ولا بؤس الحال
ولا كانوا استدعوا التاريخ القديم لتذكر الدروس والعِبر، ولا كانوا تعرفوا على أرقام الفِرق العسكرية و كيفية توزيعها على خريطة السودان، الفِرقة الخامسة عشر في مدينة الجنينة والسادسة مدينة الفاشر والإثنثن والعشرين في بابنوسة والاولى في مدني السني، والمدن تعرف عندنا بالمشاهير من أبنائها المبدعين والعلماء والمتصوفة و تُخلد بسلاطينها وطبيعتها ، فنقول دامر المجذوب وكرمكول الطيب صالح وفاشر السلطان وأمدرمان المهدي و الأبيض أسماعيل الولي ونيالا البحير و الجنينة اندوكا
ولولا الحرب أيضا لما عرفنا أن الفِرقة في بابنوسة تحمل الرقم 22
و لولا الحرب لما عرفنا أسماء قادتها ولا رتبهم العسكرية ولا قيمة 14 أغسطس من كل عام عندهم ولا كنا تحدثنا في شأنهم كأنه حديث العارفين.
وللعسكر حياتهم وطريقتهم وخطابهم كما للمدنين حياتهم وطريقتهم و خطابهم.
ولولا الحرب لما عرفنا حجم مقدرتنا على تحمل مشاق السفر البري وإحتمال الجوع والعطش، وهنالك من لم يستغل البص طيلة سنواته الخمسين الماضية او الستين، وإستعدادنا لمغادرة بيوتنا و تركها للغزاة في وضح النهار
ولا كان الناس عرفوا الساحل ومقدرة أهله العظيمة على حياة الرضى رغم الملح ورحلاتهم الخطرة لأجل الصيد، فالبحر وفير إلا أن العائد ضيئل لا يتناسب وحجم المخاطر، و شح الطبيعة عنده لا ماء عذب ولا شجر ظليل إلا أنه يدخر في بطنه الثروات العامرة
إلا أن جبيت عندنا نحن الأدباء لها شأن آخر، وللصمت عند العبور بين جبالها هيبة وجلال، وللعلو سحره الآسر ورفعته و ذاكرتنا المثقلة بالمحطات القديمة و سيغموند يقول : أشقى مخلوقات الأرض .. إنسانُ بذاكرة قوية.
إلا أن القلم يخفف حملها والكتابة تُبقينا على قيد الإنسانية رغم الخيبات و خذلان الناس و إدارة الظهر.
وللطريق الطويل ذاك حديثه وللنفس فيه سمرُ مع النفس، ولتلك المساكن حياتها التي نحاول أن نتخيلها، وفي الجبالٍ روح الكون، وفي التخلي والزهد إزدهارُ القلب و في القناعة إكتفاء، وفي ترك الناس راحة. أزمنة على أزمنة، و أجيال تعقبها اجيال ولا أحد يبقى، الأعمال فقط تُخلد وما عداها يفنى والكل يمضي إلى المصير.
أميمة عبدالله