الترجمه وتضييق الواسع
كتب د. حسن علي عيسي، استاذ الترجمة بوحدة الترجمة و التعريب بكلية الآداب جامعة الخرطوم..المترجم الفوري المعتمد اقليميا و دوليا ..كتب الآتي:
“الترجمة حِرفة إقتضاها تعدد الحضارات وإختلاف الثقافات الشيء الذي يلقي بظلاله علي كل لغة من اللغات ويكسب التعبير بتلك اللغة خصوصية تختلف كثيرا عن التعبير باللغات الأخرى حتى وإن تشابه المعني الذي يمثل نقله الهدف الرئيس للترجمه.
كذلك ظل تعريف الترجمه مثار خلاف. فالبعض يرى فيها موهبة فطرية تتوفر للبعض ولا تتوفر للبعض الآخر وأغلب هؤلاء من الذين لم تتوفر لهم دراستها دراسة علمية والحصول علي مؤهل علمي في تخصصها. والتمسك بأنها موهبة يتيح لهم البقاء في دائرتها وممارستها باعتبارها موهبة فطريه وهكذا يصبحون من أهل مكة الترجمة مؤكدين كامل درايتهم بشعابها. وتقتضي الأمانه العلمية الإشاره إلي ان بعض المترجمين الموهوبين يبدعون ابداعا مشهودا في أعمالهم دون المرور بأي من كليات مدارس الترجمه وكلياتها ولكنهم قلة ولا يتجاوز نشاطهم ضرب محدد من ضروب الترجمه التحريرية وهي الترجمة الادبية التي تغطي الشعر والروايه والمسرح وبقية ضروب الترجمة الادبية والتي هي دافعي وراء كتابة هذا المقال اذ أن معظم المهتمين بأمر الترجمه في الوطن العربي والعالم الثالث يختصرون مصطلح ومفهوم ترجمه في الترجمه الأدبيه وحتي المؤسسات التي تخصص جوائز الترجمه تمنحها فقط للأعمال التحريرية الادبيه. بمعني آخر هناك تجاهل تام للترجمة الشفاهيه بنوعيها الفوري والتتابعي وهو المنشط الذي يحرك العالم الان في ازمنة السلم والحرب وهو ضرب من ضروب الترجمه لا يتطرق من قريب او بعيد الي ضروب الادب المختلفة. فالمنظمات الاقليمية والدولية تعكف علي ايجاد الحلول لقضايا السلم والأمن والتغير المناخي والفيضانات وسوء التغذيه والأوبئة كالإيبولا وجائحة الكرونا والاحتباس الحراري.
وحتى علي مستوى الترجمة التحريريه فان كبرى جوائز العالم الثالث تتجاهل الترجمه العلميه والتقنيه في ظل إنقسام العالم الي دول منتجة ومصدرة للتقانه( دول الشمال) وأخرى مستورده ومستهلكه لها (دول الجنوب).
ولسد هذه الفجوة يتوجب التركيز علي الجانب العلمي ترجمة وفي بعض الاحيان تعريبا حتي تتحقق الفائدة العلميه ونبني علي ما وضع الشمال أساسه العلمي.
كما يجدر بالذكر ان في الترجمة التحريرية مجالات كثر جديره بالاهتمام والرعاية والتركيز كالترجمة القانونيه حيث تعم النزاعات وتكثر الحاجه لترجمة اتفاقيات السلام ووقف إطلاق النار وتطبيق القانون الانساني الدولي وغيرها من الجوانب القانونيه التي تزداد اهميتها اليوم في عالم متعدد الثقافات والحضارات.
قلت ان هناك فئة من المترجمين كان مدخلها الي وطن الترجمة ( الموهبة) بعد تصنيفها ضمن قائمة المبدعين. وهناك فئة احترفت المهنة بعد ان تسلحت بالجوانب العلميه لها فأمضت السنوات تدرس نظريات الترجمه واختلاف الحضارات والثقافات وأثره علي الترجمه ونشأت لديها قناعات مفادها أنه اذا كانت الثقافات والحضارات المختلفه تعبر عن الظواهر الكونيه المشتركه( الموت والحياة والسعادة والشقاء والثراء والفقر والنجاح والفشل) على سبيل المثال لا الحصر فان لكل لغة خصوصيتها في التعبير ويمكن الخوض في التفاصيل في مقال يخصص لذات الغرض. خلاصة القول في هذه النقطه وهي ليست النقطة المحركة لهذا المقال هو أنه لا يمكن تعريف الترجمه و الترجمة الأدبيه علي وجه الخصوص بأنها مجرد موهبه. ويمكن القول بأنها موهبة تصقل بالعلم علي غرار موهبة الموسيقي التي خصصت لها معاهد وكليات الموسيقي وموهبة كرة القدم التي قسمت الي مدارس سنية وأفردت لها الاكاديميات في كل ارجاء العالم لتخريج لاعبي مستقبل يعادل ثمن إنتقال أحدهم لاحد الفرق العالميه ميزانية دوله افريقيه كامله.
اعود الي ( لب الموضوع) وأقول ان إختصار الترجمة علي الترجمة الادبيه وتخصيص جوائز الملوك والشيوخ والأمراء لمن يتقن ترجمة قصيده او رواية او مسرحية مع تجاهل التراجم الاخري علمية كانت او اقتصاديه او قانونيه فيه خلل كبير لمفهوم الترجمة نفسه.ويأتي التجاهل الاعظم لمترجمين شفاهيين وفوريين أمضوا عقودا من الزمن خلف( قضبان الترجمة الفوريه) يترجمون الطب والهندسه والمناخ والقانون ومسببات الأوبئة وكيفية مكافحتها ومع ذلك لا يتم ترشيحهم لتلك الجوائز علما بأن انتاجهم محفوظ ومسجل في سجلات وأضابير المنظمات الاقليميه والدوليه الي اختارتهم من بين آلاف المترجمين.
ختاما اود أن أوكد أن الترجمة الادبيه من أروع فنون الترجمه وتحتاج الي ملكات ومقدرات خاصه. فقديما قيل لا يترجم الأدب إلا أديب ولا يترجم الشعر إلا شاعر. ولكن لا يمكن تضييق واسع عبر الاشاره الي ان الترجمه الادبيه تغطي معنى ومفهوم مصطلح الترجمه الواسع والعميق.
أختم بالاشارة الى أن الترجمه الادبيه غير مطلوبه في معظم مكاتب الترجمه من حيث الناحية التجاريه. فالاقبال يكثر علي ترجمة الشهادات العلميه ووثائق الزواج والطلاق وشهادات الميلاد والوفاة ودراسات الجدوى وعقود ولائحة تأسيس الشركات. وغالبا ما تتم الترجمه الادبيه لتذوق شخصي وهي غير رائجة في سوق الترجمه التجاريه اليوميه.
٢٦.٠٨.٢٠٢٣
القاهرة،جمهورية مصر العربية