فلنمضِ سوياً، نحو فجر جديد، نقرر فيه أن نُسقط عن كاهلنا أصفاد العنصرية وأغلال الرجعية والقبلية، تلك الآفات التي تسللت إلى عمق نسيجنا الاجتماعي، واستوطنت وجداننا النابض بالحياة كوحشٍ خفي، ينهش في صمتٍ مريب، ويُعيد تشكيل ملامحنا بأسلوبٍ مشوه، يطمس به جمال تنوعنا البديع. لقد عبثت بروحنا الجماعية حتى أضحت حقائق الحياة تبدو كلوحةٍ عبثية، مجردة من المعنى والجوهر، فاقدة لأي انسجامٍ أو بريق. العنصرية سمٍّ قاتل، يرتدي زيفاً قناع الترياق، يخدع العقول بوعوده الزائفة، ويضلل البصائر بمزاعم النجاة. فهي الداء الذي تسلل إلى الروح وهدم الهوية من الداخل، تاركاً الوطن بلا روحٍ ولا إرثٍ يعكس حقيقة وجوده. ولكن رغم هذا الظلام، تظل إرادة الشعب أقوى من كل القيود، وحلم النهوض أسمى من كل التحديات.
فلا يمكن أن يُختزل القبيلة في سياق سياسي عابر، ولا أداة تُوظَّف في صراع السلطة، فهي أسمى من أن تُقيَّد بأغلال الأيديولوجيات أو تُستهلك في النزاعات. لا يحق لأي حركة، ثورية أو تحريرية، أن تدّعي تمثيل القبيلة أو التحدث باسمها، فهي منظومة اجتماعية ذات جذور ضاربة في عمق التاريخ، وإطار حيّ ينظّم حياة الأفراد، وجسر يصلهم بذاكرة الأرض، حيث يُدار ميراثها الطبيعي بروح جماعية تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة، تتجلى فيها قواعد التآلف وتُعزَّز القيم المشتركة التي تزرع الانسجام بعيداً عن صخب السياسة ومآرب السلطة، وتمثل بطبيعتها الأصيلة حصن يضم الجميع دون تفرقة أو تحيز، لكنها في الوقت ذاته تصون هويتها وحدودها بثبات. وتفتح أبوابها لكل من يلجأ إليها طالباً الإقامة والعيش الكريم، مانحةً الحقوق ومطالبةً بالواجبات، شرط أن يلتزم الوافد بأعرافها ويحترم قواعدها. بهذا الامتثال، تُحفظ النسيج الاجتماعي ويُكرّس الانتماء، في ظل مظلة من الاحترام المتبادل والتقدير العميق للروابط التي تُبقيها حيّة وقوية عبر الأجيال.
هكذا تتجلى صور نابضة بالحياة للتعايش الإنساني، حيث يمتزج الناس بلا قيود جغرافية أو تمييز قبلي، فالزغاوة يقيمون في ديار الرزيقات وينعمون بكامل الصلاحيات، والرزيقات يجدون مقامهم في ديار الزغاوة. وكذلك العرب في ديار المساليت، والشايقية في ديار الجعل، والجعلية في ديار الجوامعة، في حركة سكانية متجانسة، ليست وليدة الصدفة، بل تعبير عميق عن فلسفة إنسانية تؤمن بأن الأرض تسع الجميع، والأعراف المتوارثة هي العقد الاجتماعي الذي يصون هذا النسيج المتماسك. هذه الصورة البديعة تدعو إلى تجاوز حواجز الاصطفافات السياسية ومستنقعات صراعات المصالح، لتعيد التأكيد على جوهر القيم التي تُبنى عليها المجتمعات. فالقبيلة تحتضن أبناءها تحت مظلة من العرف والتقاليد التي تحفظ كرامتهم وتصون روح العيش المشترك.
يعتبر التنوع العمود الفقري، حيث يجد كل فرد مكانه دون إقصاء، وتُنسج الروابط على أساس الاحترام المتبادل والانتماء العميق، بعيداً عن محاولات الهيمنة أو الإلغاء. إنها صورة تفيض بأملٍ يكمن في طياتها دعوة صادقة لإعادة بناء المجتمع على أسس تُعلي من قيمة الإنسان وحقه في الحياة، تلك الأسس تمنح الحياة معانيها العميقة، وتسقيها بجمالها الأصيل، فتتجلى كلوحة مكتملة الألوان تنبض بروح الإنسانية. إنها السُّنة الكونية التي تُنسج بها أقدار الوجود، حيث تتآلف القلوب، وتتلاقى المصائر، فتتشكل ملامح العالم بما يعكس حكمة الخالق وإرادته في بناء حياة قائمة على التوازن، والتكامل، والتآزر. إنه قانون كوني، وآية مبثوثة في كل زاوية من هذا الكون الفسيح، يتجاوز حدود الزمان والمكان ليؤكد فلسفة الحياة في تنوعها وغناها. تجد أبهى تجلياته في المَدِينة، حيث تنصهر الثقافات، وتتلاقح الأفكار، ويولد التعايش من رحم الاختلاف. فهي ليست مجرد كتل من الاسمنت والحجارة، بل رمز للانفتاح، وأفق يحتضن الآخر بكل ملامحه واختلافاته. إنها فلسفة قبول الآخر، الاحتفاء بالتعدد، واستيعاب المختلف باعتباره جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحياة. أما القرية، في المقابل، فتمثل صورة الأحادية والانغلاق، حيث يقف الزمان ساكناً، وتُقاوم حركة التغيير، وكأنها تتنكر لحكمة الكون في تنوعه. ولعل ذلك يفسر ارتباط ذكر القرى في القرآن بالمآل المحتوم، الهلاك. فالأحادية بطبيعتها هشّة، لا تحتمل صراع الزمن ولا تجتاز اختبار التعددية.
عندما أُمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالهجرة، كان تركه للقرية واتجاهه إلى يثرب، التي تحولت إلى المدينة المنورة، حدثاً يرمز إلى تحول جذري في فلسفة الحياة الإنسانية. كانت المدينة، بما تحمله من قبول للتعددية، ورفض لإكراه الناس على ما لا يختارونه بحرية، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) من أعظم المبادئ التي وضعها الإسلام لترسيخ حرية العقيدة والاختيار. إنها إعلان صريح بأن الإيمان لا يُفرض بالقوة، بل ينبع من قناعة القلب والعقل. تجسيداً للمنطق الإلهي الذي جعل الاختلاف جزءاً أصيلاً من منظومة الكون. لذلك أصبحت المدينة نموذجاً يُحتذى به في بناء مجتمعات تتأسس على الاستقرار والانسجام، حيث التعايش هو القانون، والاختلاف هو الجسر الذي يُثري الحياة. وتجلت هذه الفلسفة في كلمات عمر بن الخطاب المدوية، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟، التي تحمل روح العدل والاعتراف بحقوق الآخر، وفي قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم)، الذي يؤكد أن التنوع هو غاية الخلق وأساس بقائه. فالمَدَينة ليست هتاف تملأ الآفاق بالشعارات. إنها فكرة حية، ودستور حياة يُقيم توازناً دقيقاً بين الحرية والنظام، وبين الفرد والمجتمع. فهي الحاضنة للتعددية التي تضمن استقراراً سياسياً، وازدهاراً اقتصادياً، وسلاماً إجتماعياً، حيث يجد الكل مكاناً تحت مظلتها الواسعة. بهذا المفهوم تعتبر رمزاً للبقاء الذي ينتصر للإنسانية في أنبل صورها، ويجعلها قادرة على مواجهة تحديات الزمن بروح متجددة، وقلب مفتوح على كل ما هو مختلف.
دوماً من رحم الضياع ينبثق شعاع اليقين، فالخلاص يبدأ ببناء دستورٍ جامع، يخضع لقيم العدل والمساواة، وينحاز للإنسان بوصفه جوهر الحياة. دستورٍ ينسج وطناً يحتضن تنوعه في انسجام، حيث تلتقي ألوان الطيف الإنساني في لوحةٍ واحدةٍ تُعلي من شأن الحرية والكرامة، وتصوغ علاقةً متوازنة بين الحقوق والواجبات مبنية على ثلاث ركائز أساسية حقوق الإنسان والقيم الإنسانية والكرامة الوجودية للأنسان. هذا الحلم ليس رفاهية ولا خيالاً بعيد المنال، بل هو إرثٌ حمله شبابٌ وهبوا حياتهم، وبذلوا دماءهم الطاهرة قرباناً لوطنٍ كانوا يحلمون به، وطنٍ تتجسد فيه العدالة كحقيقة لا شعار، والحرية كواقع لا وعد، وطنٍ تسوده الكرامة الإنسانية في كل ركن، ويزهو بتنوعه وانفتاحه على كل ألوان الحياة. إنه صرخة قلوبٍ عصت المساومة على الحق، وسعت لبناء وطن يجسد أسمى قيم الإنسانية. هي دعوةٌ لأن نرتقي فوق جراح الماضي وآلام الحاضر، لنستعيد جوهر وجودنا كبشر أحرار، ونبني وطن بلا تمييز، يتجسد فيه روح الحياة وإرادة البقاء في أبهى صورها. وطن يُصبح نموذجاً للحرية والتعايش، ويكون شاهداً على انتصار الإنسان على قيوده، وذاته.
abudafair@hotmail.com