* نحو افق جديد قراءة فى منهج مانديلا في الحوار و الإنتقال.. بشير عثمان*

ساتناول في حلقات تجربة جنوب أفريقيا في الحوار و الانتقال مستعينا بالفصول الاخيرة من كتاب السيرة الذاتية للزعيم نلسون مانديلا مشوار طويل من اجل الحرية. ستكون الحلقة الاولي عن السنوات الاخيرة في السجن و السعي لبداية الحوار. ثم يتبعها فصل عن ما بعد اطلاق سراحه و مسار الحوار و تعرجاته ثم الوصول الي الانتقال و اخيرا تعليق مقتضب عن بعض العبر و الدروس التي يمكن استقاؤهها. امل ان تثير نقاشات جادة تسهم في تلمس الطريق لأجل انفاذ شعارات ثورة ديسمبر المجيدة و احلام الشهداء في وطن موحد يسوده العدل و السلام و الحرية

نحو افق جديد
قراءة فى منهج مانديلا في الحوار و الإنتقال

(١)

“يقول دونالد وودز في تعليقه علي كتاب مانديلا مشوار طويل لاجل الحرية “مانديلا يضاهي قادة عظام معدودين مثل لينكولن و غاندي الذين تجاوزوا مرحلة الإجماع عليهم و الشعبوية لقيادة شعوبهم نحو افاق جديدة

يقول مانديلا “قاومنا نظام التفرقة العنصرية لما يقارب ثلاثة ارباع القرن و خضنا النضال المسلح لما يقارب العقدين من الزمان. الكثيرين قتلوا من الجانبين و العدو ما زال قويا و لكن رغم ترسانته و قوته المادية الا انه لا بد احس انه علي الجانب الخطا من التاريخ. نحن معنا قوة الحق و تنقصنا القوة المادية لتحقيق نصر حاسم في المدي القريب لذا من غير المنطق ان يستمر القتل لاجل صراع غير ضرورى. لقد حان وقت الحوار.
في ذلك الوقت من منتصف ثمانينات القرن الماضي كانت حكومة الأقلية البيضاء تري ان الحوار علامة ضعف و ان علي الحكومة ألا تفاوض الإرهابيين و الشيوعيين اما حزب المؤتمر الوطني الإفريقي فكان يري ان الحكومة فاشية و عنصرية لذا لا شئ يمكن أن يناقش معها.

قرار المفاوضات محله لوساكا حيث رئاسة المقاومة لكن لا مجال للتواصل مع أوليفر تامبو رئيس المؤتمر الوطني الافريقي في المنفي من داخل السجن. كتب مانديلا “كنت في عزلة مجيدة و كنت أعلم ان رفاقي في السجن سيعارضون مقترح الحوار مع الحكومة لكن احيانا يتوجب علي القائد أن يتقدم الجماعة في اتجاه جديد واثقا انه يقود الناس في الطريق الصحيح”.
” There are times when a leader must move out ahead of his flock, go off in a new direction, confident that he is leading his people the right way”.

يقول تشجعت أكثر علي إتخاذ هذه الخطوة لوحدي واعيا أن الحزب و القيادة في المنفي يمكن أن يتبرآ من مماقد يترتب عليها في حالة فشلها بالقول أن مانديلا رجلٌ عجوز معزول عن العالم و يتصرف لوحده و لذا لا يمثل المقاومة في شئ.
عندما زاره وفد من منظمة الكومونويلث في العام 1986 دعا الحكومة للحوار و ارسل عبرهم تطمينات للاقلية البيضاء.
حتي في اوج اوقات الصراع و اكثرها عنفاعقب إعلان الحكومة حالة الطوارئ العامة و دعوة المؤتمر الوطني الافريقي للشارع لإحالة البلد غير قابلة للحكم ungovernable التي تبعتها إستجابة واسعة من الشعب لم يتوقف مانديلا عن البحث عن الحوار.
كان من المستحيل احتواء غضب الشارع إذ تحولت احياء السود الي حالة من الفوضي العامة. بكل المقاييس كان الوقت غير مناسب لاي حديث عن الحوار و لكن احيانا تكون أصعب اللحظات هي اكثرها مناسبة لاطلاق مبادرة. في مثل هذا الوقت يتوق الناس لمخرج من المازق.
كتب مانديلا لمدير السجن طالبا منه ترتيب لقاء مع وزير العدل لمناقشة أمر إبتدار الحوار. اخيرا تمكن من لقاء وزير العدل في كيب تاون وهو في كامل زي السجناء. حينها اعتذر له الوزير لعدم إتاحة الفرصة له كي يغير ملابس السجناء و لكن ذلك لم هما لمانديلا.

مانديلا قام باتخاذ الخطوات الاولي و التقاط زمام المبادرة في وقت كان فيه مجرد الحديث عن الحوار مع حكومة الافلية البيضاء خيانة و بيع للقضية. كان يؤمن بأن الوقت قد حان لخدمة قضايا النضال أفضل عن طريق الحوار. تناقشا في ذات المواضيع التي طرحها وفد الكومنويلث و اخبر الوزير برغبته في مقابلة رئيس الدولة بي بوتا.
يقول مانديلا تشجعت و أحسست ان الحكومة تفكر في الخروج من المأزق وأنه يجب عليهم مغادرة مواقفهم القديمة . بدأت أري بدايات للتنازل.
مرت شهور و لم يحدث اي تقدم. كتب خطابا جديدا للوزير و بعد عدة لقاءات سرية قامت الحكومة بتعيين لجنة من بعض الوزراء و كبار مسؤولي المخابرات لمباشرة النقاشات السرية معه و التي كانت تجري بعلم الرئيس بوتا.
كان لا بد لمانديلا أن يبلغ رفاقه في السجن و قيادة الحزب في المنفي بما يقوم به. لم تكن ردة الفعل بذات حماسه و قال والتر سيسولو انه كان يفضل لو ان جاءت المبادرة من الحكومة اما اوليفر تامبو فقد بدأ متحفظآ و إن لم يقل ان مانديلا قد خان القضية و لكن كان يعتقد انه قد اخطأ التقدير.

عقد اول اجتماع مع اللجنة الحكومية السرية في مايو 1988 و تتالت الإجتماعات بصورة إسبوعية لعدة شهور.
في شأن العنف كان رد مانديلا ان الحكومة هي المسؤولة عنه و دائما ما يكون المضطهِد بكسر الهاء و ليس المضطهَد بفتحها هو من يحدد شكل المقاومة. عندما يستعمل النظام العنف لا يترك للمظلوم خيارا غير الرد بذات الطريقة. نحن في حالة دفاع عن النفس المشروع. اذا علي الحكومة ان تدين العنف و توقفه.

النقطة الثانية انهاء التحالف مع الحزب الشيوعي. بالنسبة للحكومة البيضاء في ذلك الوقت الشيوعية رجس من عمل الشيطان لذا لا بد من فض هذا التحالف كشرط للحوار مع المؤتمر الوطني الافريقي. رد مانديلا انه لا يمكن لمقاتل من أجل الحرية يحترم نفسه أن يتلقي أوامر من جهة يحارب ضدها بالتخلي عن حلفاءه. المؤتمر الأفريقي و الشيوعي حزبان مستقلان يلتقيان في أهداف محددة علي المدي القريب و هي إسقاط الدولة العنصرية و إقامة الدولة غير العرقية لكنهما مختلفين في رؤاهما علي المدي البعيد.
في قضية التاميم ذكر أعضاء اللجنة السرية أن وثيقة الحرية تدعو الي تأميم كل مصادر الاقتصاد في جنوب أفريقيا.
اشار مانديلا الي أن وثيقة الحرية ليست برنامج عمل لتطبيق الاشتراكية و لكنها تدعو لرأسمالية علي الطراز الافريقي من أجل توزيع عادل للثروة.
أبدي الوفد تحفظه علي مفهوم حكم الأغلبية و تخوف من ضياع حقوق الاقلية البيضاء . أحالهم مانديلا الي وثيقة الحرية التي تقول ان جنوب أفريقيا هي وطن لكل من يعيش فيها سواء كان أسودا او ابيضا و أن البيض هم أفارقة كذلك و لا نريد ان نلقي بكم في البحر.

بينما كان متفائلا بسير الحوار مع اللجنة السرية تأتيه الاخبار ان منزله رقم 8115 في أورلاندو وست قد تم حرقه و لم تسلم حتي مقتنياته الصغيرة من صور و غيرها فكان تعليقه ًلقد سلبني السجن حريتي و بقيت ذكرياتي و الان أشعر أن أعدائي قد سلبوني حتي ذكرياتي ً.

في يناير 1989و بعد التشاور مع رفاقه في سجن بولسموور كتب الي الرئيس بوتا انذاك ” انا و مثلي الكثيرون من الجنوب أفريقيين منزعجين من مشهد جنوب أفريقيا المنقسمة الي معسكرين متضادين سود و بيض يذبح بعضهما البعض” و أعاد عليه موقفه من القضايا الأربع مدار المحادثات السرية ثم قدم تصورا إطاريا لما يجب الحوار حوله . اقترح أن يناقش مطلب حكم الأغلبية في دولة موحدة و تخوف الأقلية البيضاء من السيطرة السوداء و رأي ان المهمة المفصلية ستكون هي الموائمة بين هذين المطلبين. ليتم النقاش حول هذين الموقفين اقترح مانديلا تهيئة المناخ للحوار.

في العام 1989 تحالفت الجبهة الديمقراطية المتحدة (يو دي اف) و هي تحالف عريض يضم شباب المقاومة في أحياء السود و تحالف عمال جنوب افريقيا (كوساتو) و كونا حركة الجماهير الديمقراطية التي قادت المقاومة علي الأرض و دعت للعصيان المدني العام.
في يوم ٥ يوليو ذهب الي مقابلة التمساح الاعظم De Groot Krokodil الرئيس بوتا كما كان يلقب. رغم قصر اللقاء و عدم تناول مواضيع ذات اهمية الا ان مانديلا اعتبره لقائآ مهما و انه يمثل نقطة اللاعودة عن مسار الحوار.
في اغسطس 1989 تقدم بوتا باستقالته من الرئاسة اثر اصابته بجلطة دماغية و خلفه F W دي كليرك الذي بدا عهده بالسماح بالتجمعات السلمية و اعلان التزامه السلمية و استعداده للحوار مع كل من يلتزم السلمية.
في ١٠ اكتوبر تم اطلاق كبار قادة المقاومة رفاق مانديلا في السجن طوال ال٢٧ سنة . بعدها بدأ دي كليرك خطوات علي رمزيتها تشي بنية تفكيك النظام العنصري و الغي قانون المحافظة علي التفرقة في الاماكن العامة مثل المواصلات و المنتزهات و المطاعم و الحمامات العامة.

في ١٣ ديسمبر١٩٨٩ التقي مانديلا بالرئيس دى كليرك ووجده مستمعا جيدا بخلاف سابقيه. اعترض مانديلا علي مقترح قانون يسمي بقانون حقوق المجموعات باعتبار انه يكرس للهيمنة البيضاء بصورة مختلفة . ذكره مستر دى كليرك بخطابه لمستر بوتا و انه مستعد لتغيير مشروع القانون. ثم قدم طلبا بإزالة الحجر علي المنظمات السياسية مضيفا أن اطلاق سراحه بدون الغاء ذلك الحجر سيجعله يعمل في منظمة غير شرعية و بالتالي سيعاد سجنه مرة اخري لانه لا ينوي التخلي عن النضال.
مستعيرا تعليق مسز تاتشر عقب لقائها مع قورباتشوف الرئيس الروسي الاسبق علق مانديلا بقوله ” This is a man we could do business with”

في ٢ فبراير ١٩٩٠ و امام البرلمان اعلن دى كليرك الغاء حظر الاحزاب و اطلاق سراح السجناء السياسيين و الغاء حالة الطوارئ و قال لقد حان وقت الحوار.
تغير عالم المناضلين في ليلة واحدة بعد ٤٠ عاما من الحظر و المطاردات اصبح العمل السياسي للسود امرا مباحا.
• يصف مانديلا لحظات اطلاق سراحه بعد عشرة الف يوم ووداعه لحراسه القائمين علي امره بطريقة مؤثرة و يختمها بقوله حتي و انا في سن الواحدة و السبعين أشعر كأنما حياتي قد ابتدأت من جديد. نواصل….

د. بشير عثمان
بريتوريا

مقالات ذات صلة