*السياسة والدين في السودان: السلطة والمجازر تحت العمامة*

لم تكن مأساة السودان يومًا في قلة الموارد أو ضيق النيل، بل في رجال قرروا أن
يلبسوا العمامة لتغطية الخراب وتبرير الدماء. منذ ميلاد الدولة الحديثة، تسلل الدين من المحراب إلى منصة الحكم، ومن خطاب التقوى إلى خطاب الطغيان. تحولت العمامة إلى أداة سياسية، والفتوى إلى رصاصة، والمحراب إلى برج مراقبة للسلطان، وكل منابر العلم صارت أبواقًا لتسويق الدم كقداسة.

حين خطط حسن الترابي لانقلاب 1989، لم يكن يبتكر دولة جديدة، بل يضع حجر الأساس لأخطر مشروع في تاريخ السودان. اخترع فقهًا يبرر كل شيء، فالانقلاب العسكري صار “فتحًا مبينًا”، الحرب ضد الجنوب تحولت إلى “جهاد”، والقتل في دارفور وخرطوم صار “ابتلاءً من الله”. في خطبه، كان يقول: “من يقف في وجه المشروع الحضاري فهو في طريق الكفر والفتنة، وعلى المؤمن أن يدافع عن الحق مهما كلفه الأمر”، وهذه الكلمات لم تكن مجرد خطاب دعوي، بل فتوى سياسية تغطي جرائم الحرب، وتشرعن الإعدامات والتهجير القسري.

ثم جاء عمر البشير ليكمل المسرحية. جنرال محدود الثقافة، لكنه وجد في العمامة غطاءً روحياً يطيل عمره في الحكم. كان يطل على المنابر بخطاب يمزج بين السيف والفتوى، يعد الجنود بالجنة ويصف المعارضين بالكفار ويبرر المذابح بأنها حماية للوطن والدين. في خطاباته، استخدم البشير لغة دينية دقيقة لتغطية القتل والتهجير، وجعل من المساجد منابر سياسية، والفقهاء أبواقًا لتسويق الدم باسم الشرعية.

وبعد سقوط البشير، لم ينقطع الحبل بين العمامة والبندقية، بل صار أكثر قبحًا. خرجت مليشيا آل دقلو لتعيد إنتاج نفس المسرحية، شيخ يبارك الذبح وخطبة تصف الاغتصاب والنهب بأنه “فتنة يجب الصبر عليها”، بينما كان الشباب يُقطعون ويُقتلون في الخرطوم ودارفور. أحد شيوخ المليشيا قال في خطاب متلفز: “من يقاتل هذه العصابات ويضحّي في سبيل الله فهو نصر حقيقي”، بينما كانت كاميرات المليشيا تسجل اقتحام القرى واغتصاب النساء. أي دين هذا الذي يغطي على قطع الأعضاء التناسلية للشباب؟ أي شريعة تصمت أمام إحراق القرى وقتل المدنيين؟ إنها ليست شريعة الله، بل شريعة الدم. العمامة تُبارك الخراب وتغطي العار بآيات مجتزأة، والدين أصبح أداة لتبرير السلطة والنهب.

أخطر ما فعله تجار الدين أنهم جعلوا المواطن البسيط يخلط بين الإسلام كعقيدة روحانية ناصعة وبين الإسلام كأداة قمعية مسيسة. ملايين القتلى والنازحين، مدن محروقة، وأجيال فقدت الثقة في المؤسسات الدينية، هذا هو الثمن الباهظ لتحالف العمامة مع البندقية.

في كل خطوة تاريخية، من الانقلاب العسكري إلى الحرب في الجنوب ودارفور، مرورًا بالمليشيات الحالية، كان الدين يُستغل كغطاء، والعمامة تتحول إلى خوذة عسكرية، تزين رأس الجلاد. كل خطاب، كل فتوى، كل خطبة كانت تضاف إلى سجل الدماء، وكل مدينة تحترق كانت تبررها “الشرعية الإلهية”.

لن ينهض السودان ما لم يُفصل الدين عن الدولة بوضوح كامل، ولا يُعاد للعمامة إلا مكانها الطبيعي كرمز للعلم والرحمة، لا كغطاء للجريمة. الدين لله والوطن للإنسان، ومن يرتكب جريمته باسم الله لا يختلف عن أي جلاد إلا في أنه يضيف للدم قداسة زائفة. لقد آن لنا أن نفضح هذا التحالف الشيطاني بلا خوف أو مداراة، أن نقول بملء الفم إن الذين تاجروا بالدين لم يبنوا مسجدًا، ولم يعمروا وطنًا، بل تركوا مقابر جماعية وأيتامًا بلا أسماء. هؤلاء لا يستحقون صفة العلماء ولا المجاهدين، بل مجرمو حرب لبسوا قناع الورع، وسجل التاريخ شهادتهم السوداء.

مقالات ذات صلة