المقدمة: عندما حبس العالم أنفاسه
في فن المشي على حقول الألغام السياسية، حبس العالم أنفاسه بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته، التي وُصفت بأنها “خطة استسلامية إذعانية مذلة” وأشد وقعًا من كل القنابل التي سقطت على غزة. كان الجميع ينتظر أحد أمرين: إما استسلام حركة حماس للشروط المفروضة، أو رفضها القاطع الذي سيعقبه، حسب وعيد ترامب، “جحيم لم تره قط”. لكن ما حدث كان بمثابة طوفان سياسي آخر؛ ففي مناورة دبلوماسية فائقة الدهاء، قلبت حماس الطاولة بردٍّ حوّل الخطة من فخ نُصب للمقاومة إلى ورطة لا مخرج منها لنتنياهو.
*1. الدرس الأول: فخ الغرور.. كيف تم استدراج ترامب بكلمات منمّقة*
لم يبدأ رد حماس بالرفض أو التحدي، بل انطلق بذكاء استراتيجي لافت. افتتحت الحركة بيانها بمدح جهود الوسطاء، وخصّت بالذكر “جهود الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب”. كانت هذه الإشارة المباشرة لترامب بمثابة طُعم استراتيجي مُصمم بدقة، يستهدف مباشرةً شخصية معروفة بحساسيتها للإطراء وحبها لإثبات الذات. ففي عالم الاتصالات الاستراتيجية، يُعد هذا تكتيكًا كلاسيكيًا لتحييد الخصم عبر إشباع غروره، وتحويله من مهاجم إلى وسيط. لقد أعطته الحركة ما يريد سماعه، فتبنى الرد على الفور ونشره على حسابه الشخصي، ليتحول في لحظات من خصم يهدد ويتوعد إلى طرف يضغط على حليفه نتنياهو لقبول المقترح.
تقدر حركة المقاومة الإسلامية حماس الجهود العربية والإسلامية والدولية وجهود الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الداعية إلى وقف الحرب على قطاع غزة.
*2. الدرس الثاني: فن الـ “نعم، ولكن…”.. كيف تحوّل الرفض إلى تفاوض*
لم ترفض حماس الخطة، ولم تقبلها دون قيد أو شرط. لقد استخدمت تكتيك “نعم، ولكن…”، وهو من أصول فن التفاوض. فبقبولها المبدأ الأساسي الذي يهم المجتمع الدولي (تبادل الأسرى)، سيطرت الحركة على إطار السرد. هذه المناورة تنقل عبء الرفض إلى الطرف الآخر، وتجعل أي اعتراض على “لكن” الخاصة بها (شروط وقف الحرب والانسحاب الكامل) يبدو وكأنه عرقلة للسلام. لقد فتحت “شباكًا” جديدًا للمفاوضات بشروطها، بعد أن كان نتنياهو قد “أقفل الباب ووضع المفتاح في جيب ترامب”، مثبتةً أنها تفاوض بلسان هارون، ولكنها لا تنسى عصا موسى.
لم تخفَ هذه الحنكة على المحللين في إسرائيل، حيث أدرك أحدهم أن الهدف الدقيق لهذه المناورة هو “تثوير أهالي الأسرى والشارع الإسرائيلي ضد نتنياهو”، معبرًا عن إحباطه من عدو يتلاعب بالجميع ببراعة.
نحن أمام عدو خبيث لئيم يتلاعب بنا و برئيس الولايات المتحدة والعرب، الذين اجتمعوا مع ترامب، ووافقوا على الخطة. حماس الخبيثة قالت: مستعدون لتبادل الأسرى، والهدف هو تثوير أهالي الأسرى والشارع الإسرائيلي ضد نتنياهو، ويقولون بكل وقاحة: ها نحن وافقنا على الخطة، يتلاعبون بنا بكل وقاحة.
*3. الدرس الثالث: كش ملك سياسي.. وضع نتنياهو في زاوية مستحيلة*
“قنبلة ترامب” التي كانت موجهة لتفجير الموقف في وجه حماس، ارتدت لتنفجر “في حضن نتنياهو”. وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه في مأزق لا يُحسد عليه: إذا رفض الرد، سيظهر أمام شعبه والعالم على أنه هو من يعرقل عودة الأسرى. وإذا قبل، فإنه يخالف المبادئ الأساسية لائتلافه الحكومي المتطرف. الصدمة الكبرى جاءت عندما رحب ترامب برد حماس، مفاجئًا نتنياهو ومظهرًا الانقسام بين الحليفين على الملأ. وسرعان ما بدأ الإعلام الإسرائيلي يحلل دافع ترامب، مشيرًا إلى أنه “باع إسرائيل” ليس فقط من أجل السلام، بل ليمنح نفسه فرصة تاريخية ليقول “أنا من حرّر الأسرى” والفوز بـ”جائزة نوبل للسلام”.
وقد لخص أحد المحللين التماثل المذهل في هذا الكش ملك السياسي بمجاز بليغ، ملاحظًا كيف أن مخرج حماس كان هو نفسه مدخل نتنياهو إلى الجحيم.
المَخرج الذي خرجت منه حماس، هو المدخل ذاته الذي دخل منه #نتنياهو وعصابته إلى جحيم الخطة الترامبية المذلة المهينة، وفي اللحظة نفسها التي كانت تخرج فيها حماس!
*4. الدرس الرابع: من فصيل محاصر إلى لاعب دولي.. معركة الشرعية*
لم يكن رد حماس مجرد خطوة تكتيكية، بل كان مناورة استراتيجية أعادت صياغة صورة الحركة على الساحة الدولية. النقطة الأكثر دلالة كانت إعلان الحركة استعدادها لتسليم إدارة قطاع غزة “لهيئة فلسطينية من المستقلين (تكنوقراط)” بناءً على توافق وطني. بهذا الطرح، أعادت حماس تقديم نفسها كحركة تحرر وطني ناضجة تضع المصلحة الوطنية العليا فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة. هذه الخطوة، كما أشار محللون، “تكسر إلى حد كبير العزلة وتعزز شرعيتها السياسية”. لقد أثبتت أنها ليست مجرد قوة عسكرية على الأرض، بل هي “عقل سياسي يعرف كيف يحمي الثوابت ويحاصر العدو بخياراته”.
سيكتب التاريخ أنهم أشجع وأذكى وأدهى من في القرن الواحد والعشرين.
*الخاتمة: ليست مجرد بندقية، بل عقل سياسي*
أثبت رد حماس أن ميدان السياسة والتفاوض لا يقل أهمية وضراوة عن ميدان القتال. هذه الخطوة تذكرنا بـ “صلح الحديبية”، حيث القبول ببعض الشروط في الظاهر يمكن أن يؤدي إلى نصر استراتيجي في العمق. لقد أثبتت هذه المناورة أن المقاومة ليست “فقط بندقية في الميدان، بل عقل سياسي يعرف كيف يحمي الثوابت” ويحوّل أشد الضغوط إلى فرص استراتيجية..