لم يكن السير نيفيل شمبرلين (Neville Chamberlain, 1869-1940) شخصية مغمورة في عالم السياسة البريطانية، فقد تولى وزارة الصحة في حكومة المحافظين ثم صار مديراً لبنك بريطانيا المركزي قبل أن يصبح رئيساً للوزراء (1937-1940). فهو لم تكن تنقصه التجربة بقدر ما كانت تطارده أشباح الحرب العالمية الأولى، فصار يطمع أن يُذكر في التاريخ بأنه كان بطلاً للسلام. وكان يعتقد أن السياسة الخارجية الناجحة تعتمد على العلاقات الشخصية المباشرة بين الرؤساء. كان يتصور أن بإمكانه-عن طريق اللقاءات الشخصية والتودد إلى رؤساء الدول المعادية- أن يحقق انفراجاً في علاقات بريطانيا الخارجية. وبناء على هذه التصورات الفطيرة صار يتبع نهجاً في الشؤون الخارجية عُرف بسياسة الاسترضاء (appeasement policy)، وهي تسمية التصقت باسمه- يُذكر كلما ذُكرت. ومضمون سياسته تلك أن يقوم بزيارات لرؤساء الدول (بدعوة من جانبه)، ويحادثهم على موائد الطعام، ويدخل معهم في علاقات شخصية ويبرم معهم صفقات سرية، ويظن أنهم سيحتفظون بالوعود المقطوعة معهم سراً، ويوحى للجمهور البريطاني أنه يحقق بذلك انتصارات كبيرة في الجبهة لخارجية.
كان أول “نجاح” حققته سياسة الاسترضاء أن وقع صفقة “سرية” مع (موسوليني-إيطاليا) يعترف له بأحقيته في احتلال اثيوبيا وسيادته عليها في مقابل أن يسحب موسوليني قواته “المتطوعة” للقتال إلى جانب فرانكو في اسبانيا. كان يظن أن تلك الخطوة ستؤدى إلى احداث شرخ بين هتلر وموسوليني، كما ستؤدى- من جهة أخرى- لابتعاد بريطانيا عن الحرب الاهلية الاسبانية (1938-1939) والتي كان موسوليني ضالعاً فيها. استولى موسوليني على أثيوبيا تحت سمع وبصر بريطانيا وبمباركة منها، ولم تفسد العلاقة بينه وبين هتلر-كما توقع شمبرلين- بل ازدادت عمقاً.
وكأن الاحتلال الإيطالي لأثيوبيا لم يكن يعنى شيئاً، قام شمبرلين بصحبة وزير خارجيته بزيارة أخرى إلى (موسوليني-ايطاليا) في عقر داره في كانون الثاني عام 1939، وسمح لأحد معاونيه أن يطلع الجانب الايطالي على الخطوط العريضة لخطاب سيلقيه في مجلس العموم، وأن يرى ما إذا كان ينال موافقة الايطاليين، وما إذا كانت لهم مقترحات يرون تضمينها في الخطاب. وافق موسوليني بالطبع على ما ذكر الخطاب من استرضاء لإيطاليا ولكنه علق لاحقاً يقول: ” أعتقد أن هذه المرة الأولى التي يقدم فيها أي رئيس للحكومة البريطانية مسودة خطاب له، إلى حكومة أجنبيه”. وعلق تشرشل على الحادثة ذاتها قائلاً: “وإن الانسان ليحمر وجهه خجلاً عندما يقرأ التعليقات التي كانت تقال وراء الستار في إيطاليا حول بلادنا وممثليها”. ولا شك أن مثل تلك المواقف “المخجلة” قد تركت انطباعاً لدى موسوليني بأن الرئيس شمبرلين يمثل جيلاً “رخواً” من البريطانيين لا يستطيع أن يدخل حرباً وينتصر فيها.
ومواصلة لسياسة الاسترضاء، قام السير شمبرلين في عام 1938 بثلاث زيارات متتالية لألمانيا في محاولة لإقناع هتلر بعدم احتلال تشيكوسولوفاكيا، بعد أن قدم دعوة لممثلي الرباعية (بريطانيا-فرنسا//إيطاليا-وألمانيا) إلى لقاء في ميونخ. في ذلك الاجتماع أخطرهم هتلر بصراحة ووضوح أنه سيحتل تشيكوسولوفاكيا في غضون أيام، ولكن صديقه موسوليني تقدم باقتراح ملطف مفاده أن تكتفى ألمانيا بضم الأجزاء الغربية من تشيكوسولوفاكيا لا غير. (اتضح لاحقاً أن المقترح الايطالي قد وضعته الحكومة الألمانية ذاتها بعد أن ترجمته إلى اللغة الإيطالية). لم يكن في مقدور الوفد الفرنسي غير المطالبة برفع الاجتماع ريثما يتم التشاور مع حكومته، أما السير شمبرلين فقد أجرى في هذه الأثناء محادثة “سرية” مع الحكومة التشيكية ليخطرهم بمسودة القرار الألماني القاضي باحتلال بلادهم، طالباً منهم عدم الاعتراض عليه، والإسراع في عملية اخلاء غرب البلاد حتى لا يصابوا بخسائر كبيرة!.
ومع نهاية مؤتمر ميونخ، وقبل العودة الى لندن طلب شمبرلين-كعادته- اجتماعاً خاصاً مع هتلر، وطلب منه ألا يعمل على ضرب براغ حتى ولو أبدى الشيك مقاومة. أبدى هتلر موافقة ظاهرية على ذلك الطلب، وهنا كاد شمبرلين أن يطير من الفرح، فأخرج ورقة من جيبه كتب عليها: “اتفاقية بريطانية-ألمانية”. احتوت تلك الاتفاقية العجيبة على ثلاثة فقرات لا غير، جاء فيها: “أن الجانبين البريطاني والألماني يعتبران اتفاقية ميونخ رمزاً لرغبة البلدين ألا يدخلا في حرب مرة أخرى”. فما كان من هتلر إلا أن أسرع قائلا: نعم/نعم، ثم وقع عليها بأصابعه العشرة. وعندما استفسر وزير خارجية ألمانيا رئيسه عن أسباب هذا التوقيع المتعجل، أجابه هتلر: لا تأخذ الأمر مأخذ الجد، فهذه وريقة لن يترتب عليها أثر ذو قيمة!!. أما الرئيس شمبرلين-المتعجل الحالم- فعاد إلى غرفته في الفندق وهو يربت على الجيب الأمامي في سترته ويقول-وهو يشعر بالزهو- لقد حصلت عليها (I have got it). ثم عاد مسرعا الى لندن رافعاً شعار “السلام بشرف-Peace with honor . وصفق له أعضاء البرلمان، وصدقه الشعب البريطاني، وصورته الصحافة البريطانية كما يُصور القادة الفاتحون- ويا لها من غفلة وطيش!.
أما في الجانب الآخر فقد كانت المؤسسة العسكرية البريطانية تشعر بالقلق، وطفق قادتها يذكرون رئيس الوزراء من حين لآخر بالحاجة الماسة الى السلاح الذي بدونه لن يتحقق سلام، ويطالبونه سد النقص المفزع في قواتهم الجوية والبرية. ولكن رئيس الوزراء كانت لا تطربه إلا الأصوات التي تمتدح سياسة “الاسترضاء”، فكان يطالب قواته المسلحة ألا تعكر أجواء السلام كأن تقوم بإجراءات من شأنها أن “تستفز الألمان والايطاليين”.
وبينما كان الشعب البريطاني يستمتع بأجواء الفرح التي خلقتها “أكذوبة السلام”، أغار هتلر في 16 أكتوبر على تشيكوسولفاكيا، ثم أتبعها باحتلال بولندا- معلناً بذلك اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، وانضم اليه حليفه (موسوليني) في يونيو 1940، ثم انضمت اليهما اليابان مطلع العام التالي- مشكلين بذلك “المحور” العسكري الذي قصم ظهر أوربا، وفعل بفرنسا وبريطانيا الأفاعيل. عندها أفاق السير شمبريلن من غفلته القاتلة، وأدرك أن هتلر وموسوليني كان يضحكان عليه، وأنهما كانا يعدان العدة للحرب منذ أمد طويل، بينما كان هو يحلم بالسلام، واكتشف أن هتلر قد امتلك-رغم الحصار العسكري والاقتصادي-أسلحة جوية وبرية وبحرية تعادل أو تفوق القدرات البريطانية والفرنسية معاً.
حاول شمبرلين أن يقوم بحركة انعكاس مفاجئ، فيتحول فجأة من سياسة الاسترضاء الى سياسة المواجهة، وسعى-بعد فوات الأوان- لتكوين حكومة حرب قومية تقف متكاتفة في وجه عدوان دول المحور، فدعا حزبي العمال والأحرار البريطانيين للعمل تحت قيادته، ولكن حزبي العمال والأحرار رفضاً العمل تحت قيادة “مغفلة”، ففقد حزب المحافظين الأغلبية في البرلمان، فاضطر شمبرلين للتقدم باستقالته- صاغراً- ليخلفه في رئاسة الوزراء تشرشل-داهية السياسة والحرب الذي قاد بريطانيا والحلفاء إلى النصر الكبير في الحرب العالمية الثانية. وهي حرب قاسية دخلها الشعب البريطاني على غير استعداد، فاكتوى بنيرانها حيث قتل منه 450 ألف، (60 ألف منهم من المدنيين)، وجرح فيها 80 ألف؛ وهي الحرب التي تجرع فيها الشعب البريطاني مذلة الحصار ومرارة الجوع والبرد والتشرد؛ وهي الحرب التي مهدت الطريق ليس لسقوط السير شمبرلين ولسياسة الاسترضاء ولحزب المحافظين وحسب، وإنما مهدت لطريق لسقوط الإمبراطورية البريطانية العظمى، ولابتلاع الاتحاد السوفيتي للنصف الشرقي من أوربا، ولإفلاس الحكومة البريطانية فلساً جعلها تستعطف العون من الحكومة الامريكية، فتأمل!!.
تعليق أخير:
وحينما سكتت المدافع وتحقق النصر، كتب ونستون تشرشل هذه الكلمات مذكراً شعبه بالكوارث التي يجلبها القادة المغفلون، فيقول: “إذا تقاعست عن القتال عندما كان نصرك مؤكداً وقليل التكاليف، فقد ترغم على القتال بعدما تكون كل القوى المضادة قد تألبت ضدك، ولم يبق أمامك الا أمل ضئيل في البقاء. ولكن ما يزال هناك وضع أسوأ من هذا: فقد ترغم على القتال رغم انعدام الأمل في النصر، ولكن الأفضل للإنسان أن يموت كريماً على أن يعيش عبداً ذليلا”. (ونستون تشرشل: مذكرات). ولا قوة إلا بالله.