أعاد حديث أدلى به الصحفي مهند الشيخ مؤخراً فتح واحد من أكثر الملفات إثارة للجدل في الذاكرة القريبة للرأي العام السوداني، والمتعلق بتوقيف السيد /سعد بابكر، المدير العام لشركة تاركو للطيران في واقعة ظلّت لسنوات محاطة بالأسئلة والشكوك قبل أن يحسمها القضاء بالبراءة.
وبحسب ما رواه مهند الشيخ، فإن القصة تعود إلى لقاء قال إنه كان حاضراً فيه داخل منزل الفريق عباس عبدالعزيز، بحضور عدد من الشخصيات، من بينهم عبدالرحيم دقلو، القائد الثاني لقوات الدعم السريع.
وخلال ذلك اللقاء، نُقل عن دقلو حديثٌ وصفه الشيخ باللافت والخطير، إذ قال وفق الرواية إنه وجه بالقبض على سعد بابكر المدير العام لشركة تاركو بهدف ممارسة ضغط عليه، لدفعه إلى التنازل عن شركة الطيران.
لكن ما أضفى على الرواية بعداً أكثر درامية، هو ما قاله عبدالرحيم دقلو بحسب شهادة مهند الشيخ عن آلية القبض نفسها.
إذ ذكر أن بحوزته أوامر قبض مختومة وموقعة سلفًا بدرجة رسمية، وأنه في حال الرغبة في القبض على أي شخص، يتم فقط كتابة الاسم وتدوين المادة القانونية، ثم تنفيذ القبض.
رواية كهذه، بما تحمله من دلالات، لا تقف عند حدود القصة ذاتها، بل تفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول طبيعة العلاقة بين القوة والعدالة، وحول الحدود الفاصلة بين الإجراء القانوني واستخدامه كأداة ضغط، خاصة حين يتعلق الأمر برجال أعمال أو مستثمرين في قطاعات حساسة.
وتتزامن هذه الشهادة مع وقائع معروفة ومثبتة، إذ إن توقيف سعد بابكر حدث بالفعل، وشكّل في حينه قضية رأي عام واسعة، تابعتها وسائل الإعلام السودانية عن كثب، وسط حالة من الجدل والالتباس بشأن خلفيات التوقيف وأسبابه الحقيقية.
في ذلك الوقت، وُجهت إلى مدير تاركو تهم وُصفت بأنها خطيرة، وبدا ظاهرها قانونيًا، غير أن مسار القضية داخل أروقة القضاء كشف هشاشة تلك الاتهامات، لينتهي الملف بحكم قضائي واضح وصريح، قضى ببراءة سعد بابكر من جميع التهم المنسوبة إليه، واضعًا حدًا قانونيًا نهائيًا للقضية.
قطاع الطيران، بوصفه أحد أكثر القطاعات حساسية وتعقيدًا، لا يحتمل مثل هذه الهزات. وأي إشارة إلى إمكانية توظيف الإجراءات القانونية خارج مسارها الطبيعي، تُرسل رسائل مقلقة للمستثمرين، وتُضعف الثقة في مناخ الأعمال، وتضع الدولة نفسها أمام اختبار حقيقي في قدرتها على حماية الاقتصاد من التسييس أو الابتزاز.
ورغم ثقل ما تحمله شهادة مهند الشيخ من دلالات، يبقى الثابت الذي لا يقبل التأويل هو أن الحكم القضائي الصادر ببراءة سعد بابكر يمثل الحقيقة القانونية المكتملة، التي لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها، مهما تعددت الروايات أو تأخرت الشهادات.
غير أن عودة هذه القصة إلى الواجهة، بكل ما تحمله من تفاصيل، تؤكد أن بعض القضايا لا تُغلق بالكامل بالأحكام وحدها، بل تظل حاضرة في الذاكرة العامة، شاهدة على مرحلة، وعلى أسئلة لم تُطرح في وقتها بما يكفي.
وهي في النهاية تذكير صارخ بأن العدالة لا تكتمل فقط ببراءة المتهم، بل بضمان ألا تتحول السلطة إلى أداة ضغط، ولا القانون إلى ورقة تُملأ بالأسماء عند الرغبة.




