*الذكرى 139 لفتح المهدي للخرطوم: الخليفة عبد الله أحب أمينة المصرية في حين أحبت أمينة موز الجنينة حسن! (2-2) عبد الله علي إبراهيم*

الذكرى 139 لفتح المهدي للخرطوم: الخليفة عبد الله أحب أمينة المصرية في حين أحبت أمينة موز الجنينة حسن! (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
مرت هذه الذكرى لفتح الخرطوم في يومنا والمدينة في براثن واقع حرب لاحتلالها. فاختلط تاريخ فتح الخرطوم بواسطة المهدي بواقع الصراع حولها ليومنا بين القوات المسلحة و”الدعم السريع”. فتبنّى طرف “الدعم السريع” الفتح كسابقة لإهلاك “دولة 56” في السودان والتي رغب في وراثتها “كقرية بطرت معيشتها”، وهي الآية التي تلاها المهدي نفسه في أول خطبة جمعة له بعد نصره على الحكومة التركية. أما طرف القوات المسلحة فاسترجع في الذكرى، وقد رأى خراب المدينة على يد “الدعم السريع”، ما أذيع عن الدمار الذي لحق بالخرطوم خلال فتح المهدي لها. فضرست ذكرى الفتح نشر مادة معربة في المواقع عن “أوتاقو ديلي” النيوزيلندية (19 يناير 1899) شديدة الخصومة للخليفة عبدالله، القائم على أمر السودان يومها. فذكرت من فظائعه مثل قتل 15 ألف من سكان الخرطوم عند الفتح، وبطش بطشاً لم يرحم معه الدبلوماسيين ولا رجال الدين، فبتر يد القنصل الإغريقي وقطع جسده إرباً بالسواطير ورمى بأجزاء جسده على قارعة الطريق. كما علق راهبة أسترالية من معصميها على عارضة مرتفعة وجلدها بعصا سميكة على باطن قدميها وقلع أظافرها من قدميها.
سيرى من اطلع على مقايسة البعض لهجوم الدعم السريع على الخرطوم بفتحها على يد المهدي أنهم قبلوا بالسلطان المعرفي للكتابات الأوربية عن المهدية. فلم يخضعوها للنقد الذي يتعارف عليه ب”تفكيك المعرفة الاستعمارية” في مجال العلوم المعاصرة. وهي كتابات خرجت من مصنع تعبئة الرأي العام البريطاني للحماسة لفكرة “استعادة السودان”، وهي العبارة في صيغتها التاريخية والمقصود استعادته للخديوية المصرية، التي كانت وجدت معارضة مستقيمة من وليام قلادستون رئيس الوزراء بذاته. وصبت تلك التعبئة جام نيرانها على الخليفة عبدالله ودولته لتدخل في روع البريطانيين نبل مهمة استنقاذ السودانيين من مستبد شرقي كما يقال. وتولت كبر ذلك الأرزاء بدولة المهدية إدارة الاستخبارات بالجيش المصري التي كان عليها ريقنالد ونجت باشا الذي صار حاكماً عاماً على السودان بعد استعادته. وكانت أبرز إسهاماته في باب هذه التعبئة تحريره كتابات ردولف سلاطين، حاكم دارفور في الدولة التركية في السودان، والقس جوزيف أهروالدر ممن هربوا من محبسهم في أم درمان وكتبوا كشاهدي عيان في الألمانية عن استبداد الخليفة عبدالله وشروره. وزاد كتاباتهما ضغثاً على إبالة تحرير ونجت للكتابين في الإنجليزية كما سيرد.
وكانت تلك التعبئة للإمبراطورية في بريطانيا عامة. وتناولها بسداد الأكاديمي البريطاني جون مكنزي في كتابه “الدعاية والإمبراطورية: استغلال الرأي العام البريطاني، (1880-1960)” الصادر عام (1984)، فلم تكن الحكومة البريطانية، في قوله، طرفاً كبيراً في هذه الدعاية المحرضة لبناء الإمبراطورية البريطانية، ولكن تكفلت بها في آخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 وكالات دعائية تجارية سرّبت دعوتها إلى المجتمع في دوائر التعليم والجيش والكنائس وعامة الناس الذين توسلت لهم بالعروض المسرحية والترفيهية والمعارض، وسمّى مكنزي تعبئة عامة الناس لدعم بناء الإمبراطورية بـ “الإمبريالية الشعبية”.
ومن المستغرب خضوع صفوتنا للمعارف التي تلقتها عن أدب الدعاية الإمبريالية عن المهدية لا تزيد على إعادة إنتاجه كما رأينا في حين كان من انتقد هذا الأدب هو من أسس للتأرخة المهنية للمهدية. وهو الأكاديمي الإنجليزي ب م هولت الذي استأجرته الإدارة البريطانية خلال الخمسينيات لفهرسة وثائق الدولة المهدية التي كانت توافرت على جمعها بدأب خلال استعادة السودان وحفظتها طوال تلك الأعوام.
وإلى هولت يرجع فضل مؤسسية التوثيق عندنا التي هي الآن دار الوثائق القومية بالخرطوم، وكتب هولت الكتاب العمدة في تاريخ المهدية وهو “دولة المهدية في السودان” (1958) ليضع كتابي سلاطين وأهروالدر في خانة الدعاية الإمبريالية عن المهدية حيث استحقا، فقال إن الكتابين في الإنجليزية غير ما هما في الألمانية بفضل ترجمة ونجت، رئيس قلم الاستخبارات في الجيش المصري المكلف باستعادة السودان وتحريره لهما.
ونتيجة لتدخل ونجت لم يعد الكتابان مصدرين مستقلين للمعلومات عن المهدية كما ينبغي، بقدر ما هما تلميع تلفيقي لم يضف كثيراً لكتاب ونجت نفسه الذي عنوانه “المهدية والسودان المصري” (1891). فزج ونجت فيهما مواد إما عن سيرة بعض الناس، أو تعلقت بفترة سبقت المهدية، أو وقعت خارج نطاق خبرة أهروالدر وسلاطين الشخصية، علاوة على أنه تبنى في ترجمتهما أسلوباً إثارياً في لغة عاطفية للغاية ومبالغ فيها. ونحت عناوينه على صفحاتهما نحو قصص مغامرات الأطفال. واعتبر هولت كتب ونجت وسلاطين وأهروالدر الثلاثة دعاية للحرب بصورة رئيسة أبقت بعرضها البلاغي والعاطفي الإثاري للحوادث والأشخاص، على فحيح الإهانة والغضب الذي أحسه البريطانيون لمقتل غردون حتى جاء وقت استعادة السودان. وكان مركز الإثارة لاستعادة السودان الذي يعلف الناس بفظاعة حكم المهدية هو معاناة تشارلس غوردون، حكمدار السودان التركي، وآلامه في انتظار الفرج البريطاني من الحصار المضروب عليه من المهدي، ومصرعه أخيراً عند فتح المهدية للخرطوم.
ومما جاء به ماكينزي في معرض الإمبريالية الشعبية مسرحية “سقوط الخرطوم” التي عرضت في لندن عام 1885. وهي دراما عسكرية إثارية عن حملة ولسلي التي اتفق للحكومة البريطانية ابتعاثها لفك الحصار من حول غردون، إلا أن المدينة سقطت في يد المهدي فسبق السيف العذل. وفي المسرحية خائن فرنسي تحول إلى الإسلام عن المسيحية ليحظى بجاه من المهدي، وتجئ مربية هندية في خدمة الإنجليز للسودان لتثأر من الفرنسي الذي حاول اغتصابها في الهند. فحال دونه ضابط بريطاني تصادف أن كان في السودان وقت حضورها للانتقام من الفرنسي. ويظهر غردون نفسه في المسرحية فيطعم امرأة جائعة من بسكويته الخاص، ويحرر رقيقاً، ويرفض قبول فكرة أن بريطانيا قد خذلته. وجاء الجيش الإنجليزي متأخراً ولكن ليس قبل أن يهزم جيش المهدي ويقبض على الفرنسي ويلقى جزاءه على يد الضابط البريطاني.
ومن الطريف أن التأجيج للقضاء على الدولة المهدية لم يقتصر على البريطانيين بل شمل المصريين كالطرف الذي سيستعاد السودان لحظيرتهم بعد أن تمرد عليهم لنحو عقدين. فكتب الأكاديمي المصري سيد علي إسماعيل كتاباً قيماً هو “الثورة المهدية على المسرح المصري: 1896-1926” قدم له المرحوم الإمام الصادق المهدي، فمن المسرحيات عن المهدية في مصر نص “المهدي” من وضع المسرحي نجيب حداد عام 1896. وهو زمان بدء حملة استعادة السودان عن الحرب على المهدية. وتغير العنوان إلى “المهدي وفتح الخرطوم”. ومثّل سلامة حجازي في المسرحية. وفيها أحب الخليفة عبدالله أسيرة مصرية اسمها أمينة. بينما أحبت هي أسيراً مصرياً اسمه حسن. وكان السجان يأتي بها له خفية ولكن فاجأهما الخليفة مرة. فاختبأ حسن منه. ثم هجم عليه يريد قتله ولكن جنوده حالوا دونه وأعادوه للسجن. وتحايلت أمينة لفك أسره في وقت كان الجيش المصري قد وصل معسكر الخليفة. وللمرة الثانية يفاجئ الخليفة حسن وأمينة. فهمّا بالانتحار للخلاص من بطش الخليفة الذي أراد قتلهما ولكن حل الجيش المصري وأنقذهما من براثنه.
وقيل إن إقبال الأهالي على عروض المسرحية كان عظيماً. وصفق الناس كثيراً لما ورد فيها من بشائر فوز الجيش المصري. وفي حماستهم لتلك لحرب السودان إبطال لما أشيع من أن المصريين غير راضين عن حملة فتح السودان.
صار التاريخ فينا اجتراراً كيفما اتفق للنازع السياسي لأطراف الخصومة، بل صار انجراراً تسوقه الغرائز السياسة التي لا يلطفها نظر. ولم يعد معيناً لإنتاج معرفة تقيل عثرة الأمة لأنه مجرور بغرائزنا السياسية الفطرية. فكانت معارضة الإنقاذ تجر دولة المهدية لتماثل دولة الإنقاذ بقرينة الثيوقراطية في كل منهما. وهذا اجتراء في التاريخ يسمى بالحاضرويةpresentism) ) تستدعي به واقعة من الماضي لتطابق واقعة في الحاضر، لا لإنتاج معرفة مبتكرة بل كيداً أو غيظاً لتنتهي إلى الجهل بكليهما. ورأى كاتب منّا كيف تنعى هذه المعارضة على الإنقاذ هدمها لمشاريع مثل السكك الحديد ومشروع الجزيرة. فقال إن تلك المعارضة ربما نبحت الشجرة الخطأ. فهي تبكي مؤسسات تنتمي لرأس المال المادي مما بالوسع تداركه، في حين تهدم هي التاريخ الذي هو رأس المال الرمزي الذي إن صار خرائب بقي على حاله.

صفحة من نص مسرحية “المهدي وفتح الخرطوم” التي عرضت على المسرح المصري في 1896

مقالات ذات صلة