*الناظر البشير حامد يوسف (1885-1981) أنموذج المُعَلِّم الكفوء والوطني العضوي أحمد إبراهيم أبوشوك (1)*

الناظر البشير حامد يوسف (1885-1981)
أنموذج المُعَلِّم الكفوء والوطني العضوي

أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)
كان المُعَلِّم يمثل القدوة الحسنة علماً وخُلُقاً داخل السودان وخارجه، ويجد الاحتفاء اللائق من تلاميذه وأولياء أمورهم، الذين ينظرون إليه من نافذة أمير الشعراء أحمد شوقي: “قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا*** كادَ المُعَلِّم أَن يَكونَ رَسولا*** أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي*** يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا”؛ ويستقيم ميسم هذا التقدير عندما يحظى المُعَلِّم بثناء وعرفان مؤسسات الدولة التي يتبع إليها وظيفياً. ومن نماذج هؤلاء المُعَلِّمين الأعلام الشيح البشير حامد يوسف.

وُلِدَ البشير حامد محمد يوسف بدري عبد الرحمن مدني الأزرق (الحلنقي) بقرية أمبكول مركز مروي بالولاية الشمالية نحو 1885، في القرية التي وفد إليها أجداده الحلنقة من شرق السودان، بكتبهم وأقلامهم ودواياتهم (محابرهم). بدأ البشير حامد دراسته بخلوة أمبكول علي يد الشيخ محمد ود مدني، ثم التحق بخلوة الجكانين بكريمة، ثم خلوة كوري على الضفة الشرقية للنيل. وسافر بعد ذلك إلى مدينة عطبرة، حيث التحق بخدمة السكة الحديد في وظيفة عامل تلفونات؛ إلا أنه ترك الوظيفة بعد ثلاثة أشهر، وشدَّ رحاله إلى الخرطوم، وأقام عند عمه العاقب، الإقامة التي اتاحت له الفرصة لإكمال تعليمه بالمعهد العلمي بجامع أمدرمان الكبير. وبعد تخرجه التحق بمصلحة المعارف معلماً بمدرسة الخرطوم الشرقية الأولية بنين حوالي عام 1904م. وبعدها عمل بمدرسة كُورتي الأولية، التي أُسست عام 1907 على شاطئ النيل ودمرت السيول مبانيها عام 1921م. ومن تلاميذه المشاهير في كورتي الأولية العمدة محمد طه سورج (الأراك)، والعمدة محمد أحمد أبوشوك (قنتي)، والمُعلم أحمد محمد خير كير (كُورتي)، وحمزة بشير كمبال (كُورتي)، وصالح وقيع الله (كُورتي)، ومحمد أحمد سعد ود السقا (كُورتي)، ومالك محي الدين (الغُريْبَة).

وبعد كورتي انتقل للعمل بمدارس كل من القضارف، وحلفا القديمة، والمكنية غرب شندي، والجيلي، والعباسية أمدرمان، والمتمة، وطوكر. ومن طوكر نُقل ناظراً إلى مدرسة مروي الأولية بنين (1928-1940م). وكانت آخر محطاته التعليمية مدرسة النهود الأولية (1940-1942م)، وبعدها تقاعد عن الوظيفة، وآثر الحياة الريفية بقريته الأم (أمبكول)، حيث أصبح إماماً لمسجدها العتيق، وذلك إلى جانب نشاطه الزراعي والتجاري، وإسهاماته في مجال العمل العامّ. وأصدق شاهد على ذلك مشاركته الفاعلة في تأسيس مدرسة أمبكول الأوليه الأهلية عام 1954م، التي عمل فيها ناظراً مؤسساً حتى عـــــــام 1957م، وفي تلك الفترة تمَّ انتخابه نائباً لرئيس اللجنة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي بعمودية كورتي. وقضي أيامه الأخيرة في مدينة ربك في صحبة ابنه أحمد، الذي كان ناظراً بالسكة الحديد، وتوفي عام 1981.

(2)
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا
كانت السلطات البريطانية الحاكمة آنذاك (1898-1956) تقدر عطاء المُعَلِّمين البارزين، وتمنحهم كساوى شرف دينية. وكانت الكساوى الدينية مصنفة إلى ثلاث مراتب: (أ) كسوة دينية خصوصية، مصنوعة من الجوخ الأرجواني، ومزركشة الياقة، والصدر، والظهر، تُمنح لزعماء العائلات الدينية المعروفة على المستوى القومي في السُّودان؛ (ب) كسوة دينية من الدرجة الأولى، مصنوعة من الجوخ الأرجواني، ومزركشة الياقة، والظهر، تُنمح لزعماء العائلات الدينية، ورجال التعليم؛ (ج) كسوة دينية من المرتبة الثانية، مصنوعة من الجوخ الأرجواني، ومزركشة الياقة فقط، تمنح لزعماء البيوتات الدينية ذات النفوذ المحلي، ورجال التعليم. وكان الشخص الذي يحصل على أي من هذه الكساوى الثلاث يُمنح مسبحة فخمة الصنع. ومن المعلمين الذين منحوا كساوى دينية من المرتبة الثانية في المديرية الشمالية الشيخ البشير حامد يوسف الحلنقي، ناظر مدرسة مروي الأولية آنذاك، والتي قدمها إليه السيد موريس استانلي لوش (1938-1941م)، مدير المديرية الشمالية، أثناء انعقاد معرض مروي الزراعي لسنة 1939م. وقبل تسليمه لتلك البراءة التشريفية خاطب السيد لوش الأستاذ الشيخ البشير حامد بخطاب رفيع العبارة، جاء فيه:

الدامر 12/12/1938م
حضرة المحترم الشيخ البشير حامد يوسف
ناظر مدرسة مروي الأولية
أكتب هذا لأهنئكم على كسوة الشرف الدينية من الدرجة الثانية التي منحها لكم صاحب المعالي الحاكم العام، تقديراً لما أديتموه من الخدمات الجليلة لأهالي وحكومة السُّودان. ثم أني أتعشم بأن أتمكن من إهداء هذه الكسوة لكم شخصياً بالنيابة عن صاحب المعالي، الحاكم العام، في معرض مروي الزراعي الذي سيقام في السنة المقبلة. وأنه من دواعي اغتباطي أيضاً أن أتعرف على أحد أعضاء التعليم بهذه المديرية، وأقوم بمكافأته على حسن عمله. ختاماً أبعث إليكم بأطيب التمنيات عن مستقبل مزدهر. واثقاً بأن الحكومة والأهالي بالسُّودان سوف يعتمدون عليكم في المداومة على أداء الخدمات العامة التي تعود على البلاد بالخير والنفع العميم.
موريس استانلي لوش،
مدير المديرية الشمالية.

(3)

كفاءة المعلم وعضوية الانتماء
كان المُعَلِّمون الأوائل مُعَلِّمون أكفاء في أداء مهامهم التعليمية، ولذلك حظيوا بتقدير عام من تلاميذهم، وأهل المناطق التي عملوا فيها، ومن السلطات المشرفة على أدائهم الوظيفي، فضلاً عن ذلك فقد كانت انتماءاتهم انتماءات عضوية إلى المجتمعات المحلية التي وفدوا منها. فأستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه عندما آثر التقاعد عن العمل العام، لم يطب له العيش في الخرطوم (المركز)، بل آثر الرحيل إلى قريته الأم أربجي (الهامش)، حيث أسهم في إعمارها وتطوير فضاءاتها الخدمية؛ لدرجة جعلت الدكتور التيجاني الماحي يصفه بـــ “صانع المدينة الفاضلة، التي كان يحلم بها أبو النصر الفارابي”. وسداداً لفاتورة دين أربجي المستحق، رفض العمل سفيراً للسودان بلندن أبان الحكم العسكري الأول، واعتذر عن رئاسة مجلس إدارة مشروع الجزيرة، وعضوية مجلس السيادة في عهد الديمقراطية الثانية (1964-1969م). وعلى النهج ذاته سار الناظر البشير حامد يوسف، فعندما تقاعد عن التدريس، فرَّغ نفسه للعمل العام في قرية أمبكول، وبعطاء الناظر البشير ونظرائه من المُعَلَّمين الأكفاء ضاقت الشقة بين المركز والهامش. لكن اليوم الذين بنوا مجدهم على مظالم الهامش لا يقدمون شيئاً إلى أصحاب المظلومية الحقيقيين، بل أصبحوا جزءاً من المركز وفساده، وبذلك أسهموا في توسيع البون بين المركز والهامش، لأن غاياتهم الحقيقية تمركزت حول كسبهم الشخصي في السلطة والثروة. فما عادت معادلة قسمة السلطة والثروة القائمة على مصالح القيادات السياسية تمثل الوصفة السحرية لحل مشكلات السودان القومية والمحلية المزمنة، ولذلك دعونا نفكر خارج الصندوق وخارج النمط التقليدي، الذي أفسد حياة أهل السودان وقادهم إلى حرب مدمرة، لا يدرون كيف تكون خواتيمها.

مقالات ذات صلة