في حروب الدولة والقبيلة:
وما انا من غُزّية
ولكن غُزّية مني
ان جهلت جهلت بسببي
وان اصبت أنكرت نسبي
كثير من الاعذار التي تبرر لاخطاء الاجتماع عندنا والانغماس فيها تقوم على مقاربة مقولة الشاعر العربي، دريد بن الصمة، وهو من المعمرين في “الجاهلية” كان فارسا وقائدا لقبيلته قتل في يوم حنين عندما حارب المسلمين، وهو كفيف اراد قومه ان يستشيروا به، اذ ادرك دعوة النبي محمد ولم يؤمن بها، وبيت شعره الاشهر: “وما انا الا من غُزية ان غوت غويت وان ترشد أرشد”، ولم يكن هذا بشيء عندما خاطب مالك ابن عوف الذي كان يقود قومه يوم حنين: “يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله، ليقاتل عنهم. فرد عليه قائلا: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.”
لم يعرف عن القبائل البدو هذا النزع في مجاراة الخارجين عن قيم مجتمع البادية وتهديد أسس تعايشه، بل بالعكس ظلت سطوة القبيلة تعلي من الحكمة والسلم وتنبذ من يهدد هذا من قومها، وعلّ طبيعة حياة الرعي جعل التزام الرعاة بالقوانين يتم طوعاً، كما يقومون بإنفاذها فزعاً، في ظل غياب الدولة بمعناها الحقيقي في تعزيز حق الجميع في الامن والحياة الافضل، فلم تنتبه الدولة لهم، وانا هنا اشير لمن يتم تعريفهم بعرب “الشتات” في مناطق دارفور وغرب كردفان، ولا اعرف على وجه الدقة لماذا يتم استخدام مفردة “الشتات” هذه في وصف العرب الأبالة تحديدا في هذه المناطق وامتداداتهم في الحزام الصحراوي في كل غرب افريقيا!
عندما انتبهت الدولة المركزية هنا في حروبها على محاولات الهامش في الخروج عن هيمنة الاقلية العرقية والعصابة العقائدية، والتي حكمت السودان لقرنين وفق د. الوليد مادبو، جعلت من هذه القبائل امتدادا لحكم الاقلية العرقية والعصابة العقائدية وقهرها، واستخدمت لقمع حروب محاولة الهامش الجسورة للخروج من دولة الهيمنة والاختلال التي قامت منذ استقلالنا في ٥٦، بعيدا عن هذا التهويل في الحديث عن حكم استمر ٢٠٠ عام، لم تكن ابداً نسقا مستقرا لحكم مركزي ناهيك عن ان تكون نسقا مستمرا لاستئثار قبيلة بعينها بحكم لم يوجد طوال فترة هذين القرنين؛ اكثر من نصفها كانت استعمار، بمعنى احتلال، اجنبي خالص، واقل من هذا النصف استحق وصف الاستعمار الوطني؛ في تجربتين للحكم الوطني اثر الخروج المحتل الاجنبي في ١٨٨٥ من الميلاد عند تحرير الخرطوم بقوات المهدية وقيام دولتهم، ولاحقا عند استقلال السودان في ١٩٥٥.
استحقت سنوات الكفاح المسلح في تاريخنا الحديث اسم او صفة حرب القبيلة ضد الدولة المركزية، فقد ظلت نخب الهامش من مثقفين و سياسيين تلجأ دائما للاصطفاف بشكل اثني من موقع ليس بالضرورة هو الموقف السليم الذي دعت اليه، سواء ان كان في حديثها عن رفع التهميش على اهلها، او دعاوى تفكيك دولة المركز. وان كان ذنب الدولة هنا اكبر وبطبيعة التشوهات الهيكلية في بنيانها عن دور هؤلاء الافراد، فالدولة ايضا اختارت ان تحارب القبيلة وفي حربها ضد القبيلة لم تجد افضل من استخدام القبائل ضد بعضها، فاشعلت فتنة في واقع اجتماعنا الان يهدد وجودها باكثر مما ارادت نضالات الهامش ضد المركز.
اذا نظرنا لاشتعال الحرب الاهلية في السودان في عام ١٩٥٥ سندرك انه لا قيمة للسؤال العقيم حول من اطلق الرصاصة الاولى في اشعال حرب كانت الاطول في التاريخ الحديث بين البشرية. فقد تمردت قوى نظامية في اغسطس ١٩٥٥، رافضة تنفيذ قرار نقلها للشمال، وكان التمرد من قبل الضباط والجنود الجنوبيين قد دار حوله لغط كبير وحول دوافعه الحقيقية، لكن ومنذ العام ١٩٤٧، كان واضحا ان الحركة السياسية المدنية في السودان غير ملمة بتحديات البناء الوطني وواجبات قيام الدولة، فقد تغافلت نخب الشمال توصيات مؤتمر جوبا كأول محاولة تأسيسية للدولة، وغلب وسط النخبة الوطنية النزع السلطوي وبذات ما انتهت اليه قوى الحرية والتغيير كمحتالين اختطفوا ثورة عظيمة؛ كان واضحا عند استقلالنا الاول ان اقزام تقدموا امة عظيمة، وقد اصر كثير من قادة السودان من الجنوب على النضال المدني الديمقراطي ورفضوا الانخراط في الكفاح المسلح، ناهيك عن السؤال الاهم: عن دوافع الحرب قبل اكمال اشواط النضال المدني اساسا في الميلاد الحديث للدولة عندنا او حتى قبله!
ظل كثير من المثقفين والسياسيين من جنوب السودان اكبر من رصفائهم من انحاء السودان الاخرى، وعل اسماء مثل لويجي ادوك (افضل من ترأس السودان) الذي استقال من مجلس السيادة منتصف الستينات، (المجلس الذي تشكل عقب انتفاضة/ثورة اكتوبر ٦٤)، ووليم دينق الذي تم اغتياله في الديمقراطية الثانية! كانوا الاحرص على سيادة حكم القانون ورشد السياسة من خلال اولا موقفهم من الصراع المسلح، وعدم تفضيله ابدا، رغم التضحيات الجسام التي فرضت على كلاهما من خلال النظر اليهم دائما كآخرين لم يطالبوا باكثر من حقهم في ان يكونوا كذلك بداهة. ويقود تغليب الخيار العسكري في سنوات الحكم الوطني لتراجع ادوار السياسة والسياسيين من امثالهم، ونردد ادمان النخبة على الفشل دون الوعي بمحاولات الكثيرين من نخبنا في تاريخنا للخروج من هذا الفشل.
ليس من الصحيح، وباي درجة، التبرير لحروب الدولة الان وفق ذات منطق الصراع الاهلي السوداني التاريخي، وان كانت حرب ابريل مولود شرعي لدوائر العنف داخل هذه الدولة، ولكنها مولود تناقضات المركز والمركز وليست الهامش والمركز الذي نشط الدعم السريع في قمعه كجزء من ادوات القهر المملوكة للدولة يمارس ذات تعسف ادوات القهر في امتلاك الدولة والهيمنة على مواردها، كسمة اساسية لدولة المركز هذه او دولة ٥٦ كما اردنا ان نصف عجزنا في استدامة الديمقراطية والتنمية وعمومية الدولة طوال تاريخ الحكم الوطني، ولا تشكل قوات الدعم الان حتى مولود خارج رحم الدولة التي عهدناها، والتي يهدد وجودها الان كابرز تناقضاتها، ويتجاور تهديده الدولة الموجودة لتهديد ميلاد الدولة المنشودة.
سطت الطبقة السياسية على مفهوم الدولة من خلال نظرة خاطئة للمتعلمين والمثقفين من السودانيين والسودانيات، وتجاوزوا هذا لمؤسسات الدولة الحديثة وعصبها في سيادة القانون والمحاسبية، واسس تحقيق الجدارة، حتى داخل جهاز الخدمة البروقراطي في الدولة، واصبحت الخدمة في جهاز الدولة مدخلا للامتيازات فقط لا الواجب ايضا. وكما ايضا ادى هذا الواقع لبقاء دور القبيلة وكيانات السلطة التقليدية كمحاولة من المجتمع ليست في تعزيز شروط بقاءه الافضل وحسب، ولكن لمواجهة تهديد هذه المجتمعات من قبل مظاهر الدولة الحديثة وتاخر ميلاد مؤسسات ديمقراطية حقيقية، واقتصار سلطة الدولة على طابع مهيمن مركزي وقاهر اكثر تراجعاً عن انماط السلطة التقليدية، كما لم يجد اصحاب الطموح الكسولين من طبقة السياسيين والمثقفين حرجا في استجداء القبيلة والطرق الصوفية والطائفة للوصول للسلطة، وحتى جهاز الدولة في اشكال اخرى من خلال تحالف طبقة الافندية بشقيها المدني والعسكري، كما لم يمنع هذا مثقفين ومناضلين من اللجوء للقبيلة والدين واي من اشكال العصبية لتعزيز فرصهم في السلطة في تعزيز بيِّن لفرص تهافت الدولة نفسها، وعلى نحو ما يحدث الان.
“المثقفين” دائمي الوجود خلف كل ازماتنا هذه، قد يشكلون قلة وسط هذه الفئة من الموصوفين، لكنها القلة الاقدر على الصعود والاكثر جرأة في تقديم نفسها وفق واقع انحلال سياسي مزمن في تجربة الحكم الوطني، لتشكل هذه القلة غالب طبقتنا السياسية. والخروج من هذه الازمات لا يمكن ان يتم بهذا الوصف المتعالي للمجتمع بالتخلف، فليس من المفروض لاي من اشكال المجتمع التقليدي ان تتصف بالحداثة او الديمقراطية حتى، التخلف الحقيقي هو ردة هذه الطبقة من المثقفين والمتعلمين وتخلفهم عن اي نظام معاصر رغم حداثة ثقافتهم وتعليمهم، وهنا لايجب ان يتصفوا بكونهم مثقفي قبيلة ما، او اصحاب اصالة حتى، فموقفهم هنا انتهازي محض يحكي عن فشلهم هم لا عن عن فشل مجتمعاتهم وعجزها، وإن اعجزها تقدمهم لها. عندها يقود لجوئهم الدؤوب هذا للقبيلة والدين او سعيهم لتعزيز انحراف اجهزة الدولة (جيش وقضاء وخدمة مدنية) لتهديد الدولة نفسها. وكلما تهددت سلطتهم من قبل تناقضها مع طبيعة مؤسسات الدولة الحديثة، وقدرة حركة الجماهير على تنظيم احتجاجها؛ كانوا اقرب لتفضيل انهيار الدولة على انهيار سلطتهم، يفضلون الاضطراب ببقائهم على الاستقرار من دونهم، وحتى اذا لم يقدروا على الحرب دفعوا اليها، وبشروا بها او هددوا بها، سيان عندهم الحرب او لا للحرب، وكما نراه يحدث الان: يخفون من خلف آثام الحرب اثامهم.
محمد فاروق سلمان