*ذكرياتي في بيوت الأشباح بقلم : محجوب عروة*

شكرا محجوب عروة وانت تروي ذكريات بيوت الاشباح
ذكرياتي في بيوت الأشباح
بقلم : محجوب عروة
سمعت لأول مرة عما اطلق عليها (بيوت الأشباح) من صديقى ابن دفعتى فى كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم والقيادى بالحزب الاتحادى الاستاذ صديق الهندى.. كان الشريف صديق قد خرج من زنازين الاعتقال فى الأشهر الأولى من انقلاب الانقاذ وحكى لى ما لم أستطع استيعابه منذ أول مرة ولم يخطر على بالى ولا انسان سودانى ما يعف اللسان عن ذكره ويصدقه العقل والوجدان السليم والخلق الرفيع.. كان ذلك قبل بناء زنازين الاعتقال لاحقا والتى اشتهرت ببيوت الأشباح شيدها نظام الانقاذ خصيصا للاعتقال والتعذيب المعنوى والجسدى فى منطقة الخرطوم شرق وخلف العمارة الحالية المواجهة اليوم لبنك بيبلوس بشارع الزبير باشا.. لقد ذهلت مما رواه لى الشريف صديق وكنت لصيقا به منذ أن عرفته فى الجامعة فى خريف عقد ستينيات القرن الماضى كشخصية فريدة محترمة لا تعرف الكذب حيث كنا نسكن فى حجرة واحدة فى السنة الخامسة فى إحدى داخليات الجامعة واشتركنا سويا فى العمل السياسى والتنظيمى فى الاتجاه الاسلامى فى تلك الفترة قبل أن تفرقنا الأحداث والسياسة. لولا ذلك لاعتبرت صديق يبالغ فى روايته حول كيف جرى تعذيبهم تشاركه بعض القيادات الاتحادية.. كانت المعاملة سيئة للغاية من قبل جلاوزة جهاز الامن فاقدى الأخلاق والسلوك الانسانى القويم والاحساس الوطنى السليم.. والحقيقة كما رواها لى الشريف صديق لاحقا لم اكن الوحيد الذى دهش ولم يصدق رواية الشريف صديق فى البداية فحتى القيادى بالحزب الشيوعى التجانى الطيب حين التقاه صديق فى سجن كوبر وروى له ما حدث من تعذيب واساءات وتصرفات لم يصدق ذلك فى البداية… كان ذلك قبل بناء زنازين بيوت الأشباح حتى كشف لى الشريف صديق ان جهاز الأمن شرع فى بناء زنازين خاصة أكثر سوءا” أطلق عليها بيوت الأشباح.
أذكر جيدا حين استمعت لرواية صديق الهندى ذهبت الى احد القياديين فى الحركة الاسلامية لأروى له ما حدث حتى يوقفوا تلك الفضيحة والمهزلة فربما لم يكن يعلم (الشيوخ) ذلك ليتصرفوا بما يمليه عليهم شرع الله!! ولكن واه من لكن فقد اتضح لى لاحقا ان قيادات الحركة الاسلامية كانت تعلم بكل التفاصيل!! ولم لا، ألم يكن د. نافع وعلي عثمان وعوض الجاز من قيادات الحركة بل كانوا هم (السوبر تنظيم؟) هم الذين يديرون الدولة من خلف ستار وجهاز الأمن تحت قبضتهم؟
الحقيقة لم تكن تلك هى الحادثة الأولى فى فضائح التعذيب فأذكر اننى عندما علمت فى بدايات الانقاذ ان تعذيباً قد جرى لأحد المواطنين وتعدوا عليه بالضرب المبرح وترك آثارا واضحة فى ظهره بسبب الضرب واطفاء أعقاب السجائر فى جسده قمت بالاتصال بنافع علي نافع بحكم زمالتنا السابقة فى جامعة الخرطوم والحركة الاسلامية ثم سكن فى منزلنا فى مدينة كسلا بعد تخرجه والتحاقه بالعمل فيها.. نافع طلب منى مقابلته مساءً فى احد مقار جهاز الأمن مواجه مباشرة من الناحية الشمالية لمقابر فاروق.. بعد أن أخبرته بالتعذيب وجدال طويل انكر فيه نافع حادثة التعذيب، اختتمت اللقاء قائلا يا نافع الظلم ظلمات يوم القيامة وانا متأكد من حادثة التعذيب وعليك ان تتحرى أكثر ولا تصدق (ناسك) وتدافع عنهم بالباطل وافترقنا!!
يبدو ان ما حدث فى المعتقل وفى بيوت الأشباح كان عملا ممنهجا وتأكدت من ان فتاوى قد صدرت من بعض الشيوخ أدعياء الفقه انه يجوز تعذيب المعارضين بدعاوى انهم ضد شرع الله وان الانقاذ هى المدافع عن الاسلام وتطبق شرع الله!!
ثم تأكدت لى حوادث التعذيب المعنوى والمادى عندما تمت (استضافتى) فى بيوت الأشباح فى احداث صحيفتى السودانى الدولية فى أبريل 1994 التى أغلقها النظام بقانون الطوارئ.. لقد كانت تجربة قاسية بدأت باعتقالى فى مطار الخرطوم وانا عائد من المملكة السعودية كما رويت سابقا ولم اكن ادرى ما حدث من الهجوم على مقر الصحيفة ومطبعتها ليلة (القبض عليها) واغلاقها ومصادرتها.. تم اقتيادى الى بيوت الأشباح بالسيارة وحتى لا أعرف الطريق اليها تم الضغط على رأسى ووضعه أسفل المقعد!! وعند وصولى تم ادخالى فى زنزانة ضيقة رقمها عشرين وقال لى الحارس باستهزاء (جيتونا .. ادخلوا يا ناس السودانى الدولية).. كانت الزنزانة بالكاد تستطيع ان تمد فيها كامل جسدك دعك من الصلاة دون ان تصطدم بالحائط!! كما كان الوقت صيفا والهواء ثالث العذاب عبر شباك واحد فى الأعلى..
كان اليوم موزعا كالآتى: بعد ان يتم ايقاظى فى الساعة الواحدة صباحا للذهاب بى للتحقيق فى مبانى جهاز الأمن وانا فى قمة الاجهاد بسبب أننى لم أتمكن من النوم لأننى ظللت سائر اليوم ممددا فى الغرفة بكامل ملابسى التى جئت بها من المطار واضعا رأسى على حذائى.. وفى الفجر يتم ايقاظك للصلاة لتذهب الى بيت الأدب وترجع الى الزنزانة حتى وقت الظهر ويتم وضع الافطار لك خارج باب الزنزانة مثلما يوضع للكلاب والقطط لتقوم بادخاله تحت اشراف الحرس الذى يغلق الباب بشدة امعانا فى الاساءة.. تصور عزيزى القارئ تظل فى الزنزانة منذ الفجر حتى وقت الظهر دون ان يسمح لك بالذهاب الى بيت الأدب امعانا فى التعذيب المعنوى؟؟ هذا غير الاساءات التى نسمعها من الحراس لبعض المعتقلين.
فى احدى الليالى احضر لأحد الزنازين السيد الصادق المهدى ووضعوه منفردا مثلى فى أحد حجراتها وأجبرنا على الجلوس كى لا نشاهده كلما سمح له بالخروج مؤقتا للتحقيق!! كان الاستاذ عبد الرسول النور القيادى بحزب الأمة قد أصيب بالملاريا الخبيثة لا يستطيع التحرك الا بحمله ولم يتم علاجه.
أكثر ما أثار اعجابى به الاستاذ المرحوم سيد احمد الحسين الذى كانت تربط يده السليمة على باب الزنزانة لساعات طويلة وهو فى تلك السن رغم تاريخه المحترم كأستاذ قانون ووزير داخلية سابق!! وقد حكى الاستاذ المرحوم علي محمود حسنين الذى كان يشاركه الاعتقال انه احتج على رجل الأمن من تلك المعاملة للاستاذ سيد احمد قائلا لضابط الأمن ألا تخافون الله؟ فرد عليه ضابط الأمن بكل صفاقة لقد أغلقت الله فى الدرج ورميت بالمفتاح!!
من المشاهد التى لا انساها شاهدت بام عينى كيف كان يستدعي الحارس ليلا بعض المعتقلين كبار السن من النقابيين ويخاطبهم وهو يرقد فى السرير والبندقية بجواره ويطلب منهم الجلوس على الأرض ثم الزحف!! واحيانا كثيرة اسمع أصواتا لأحد الحراس كان يضرب احد المعتقلين!! وفى احدى المرات عندما استدعيت فى المكتب الملحق بالزنازين رأيت عجبا فقد كان احد الجلاوزة يستجوب المعتقل الاستاذ محمد سيد احمد الملقب (بالجاكومى) جاعلا رأسه موجها الى الحائط وكان الحارس يوجه مسدسه نحوه باستفزاز يهدده باطلاق النار عليه!!
من المواقف التى لا انساها شجاعة الشاعر المرحوم الدوش الذى كان معتقلا بجوار زنزانتى ولا يمارس التسكع مثلنا عندما يسمح لنا بالذهاب الى بيت الأدب او غسل الملابس .. فبعد ثلاثة أشهر من الاعتقال سمح لزوجتى بزيارتى والتى احضرت لى بعض التمر فعندما لم يكن بالامكان ان أعطي الدوش بعضا منه طلبت من احد الحراس ان يحمله اليه.. هل تصدق أنه تم استجوابى حول ذلك قائلين لماذا تعطيه وماذا تقصد من ذلك ولا تكرره مرة أخرى؟؟
كان بعض الليبيين المعارضين للقذافى قد تم اعتقالهم وجيئ بهم الى بيوت الأشباح وبعد ايام علمت أنه تم تسليمهم الى القذافى ولكنهم لم يصلوا الى طرابلس.. هل تعلمون لماذا؟ لأنهم حين يذهبون بهم الى المطار ويرفعون الى الطائرة واحدا بعد الآخر يسيل دم غزير على الأرض حيث يتم اعدامهم فور دخولهم الطائرة!!! أهدى هذه الواقعة الى محكمة لاهاى لتحقق عمن فعل هذا فى جهاز الأمن السودانى وربما قبض الثمن من القذافى مالا حراما فالله يمهل ولا يهمل!! (أين القذافى وأين حكام الانقاذ وجلاوزة النظام؟) كم من مظاليم باسمك يا شريعة العدل ودين الله الحق الذى بعث به سبحانه رسوله الخاتم للرسالات الذى قال انما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق !!
رئيس تحريرجريدةالسوداني الدولية

مقالات ذات صلة