“التلاوم خطة عجز أو مظهر من “رقود الهمم”، في عبارة للشاعر صلاح أحمد إبراهيم. ومن المؤسف أنه لم يك بوسع فكرنا السياسي غير العودة من الانفصال بالتلاوم. فهو عرض من أعراض إرهاق الصفوة”
إذا لم يكن نصيبنا في السودان من الوعي بتراجيديا انفصال الجنوب سوى التلاوم فلن نزيد من جعلها تراجيكوميدي. فكل من جماعاتنا السياسية في الحكم والمعارضة يظن أنه الفرقة الناجية، ويلقي بلوم انفصال الجنوب على الآخر.
وبلغنا من التلاوم حول انفصال الجنوب مبلغاً عبثياً. فتجد حتى المؤتمر الوطني الحاكم أقبل بعضه على بعض يتلاومون. ففريق منه يُحمِّل الطاقم الذي كان من وراء اتفاقية نيفاشا (2005) -التي أدت إلى فصل الجنوب- تبعة الانفصال، حتى نصحهم الكاتب خالد التجاني بأن يرشدوا ويكفوا عن هذا التمرين الفارغ.
أما رئيس الوزراء في فترتيْ الحكم الديمقراطي في الستينيات والثمانينيات السيد الصادق المهدي، فيعرف أنه لابد من ملوم في أزمة الجنوب، ولذا سارع متواضعاً للقول بأنه يتحمل قدراً من تبعة فصله. وعزا ذلك لحلفائه المشاكسين في الحكومة في 1986. ولكن لم يعدم الذريعة لتحميل حكومة الإنقاذ وزر الانفصال غير عابئ. فقال إن الفرق بينه وبين الإنقاذ من جهة وزر الانفصال هو “الفرق بين من قصد الحق وأخطأه وبين من قصد الباطل وأصابه”.
ليس بوسع الحركة الإسلامية/الإنقاذية -من الجهة الثانية- بالطبع لوم أحد على الانفصال الذي وقع خلال “نبطشيتها” الطويلة في الحكم. ولكنها تستنكر تذنيب خصومها لها بأن إدارتها الخرقاء للتنوع السوداني بإلحاحها الفظ الطويل على الدستور الإسلامي هي التي قسَّمت البلاد.
وللإسلاميين في دفع هذا اللوم حجة “ماسخة”، مؤداها أن لا علاقة للشريعة بتمرد قرنق الذي بدأ في يوليو 1983 بينما طبق نميري الشريعة في سبتمبر من نفس السنة. ولا أدري كيف ساغ للإسلاميين قصر المناداة بحكم الشرع أو تطبيقه على فترة نميري وحدها. فدعوتهم لذلك سبقت نميري ولم تتوقف عنده. وكذلك تمرد القوميين الجنوبيين. فالإسلاميون “يعتبطون” الناس بمثل هذه الحجة المجانية. فهم بدأوا سيرتهم السياسية -وهم بعد حركة تربوية في خمسينيات القرن الماضي- بتعبئة الناس لاتخاذ الشريعة الإسلامية دستوراً، وهو ما فصله الدكتور عبد اللطيف البوني في كتبه عن الإسلام والسياسة في السودان. بل نجحوا في 1968 في إجازة مشروع للدستور الإسلامي من داخل البرلمان. ووصف الأكاديمي الأميركي المسلم عبدو مالقم سيمنون (1994) هذا التشدد (الذي يحسنه كل أحد) بـ”العشوائية”. وقصد بها تحويل الجماعة لأجندة سياسية لم ينضج ظرفها (مثل قيام الدولة الإسلامية) إلى نظريات متفائلة لإدارة التطور الاجتماعي. وانتهت العشوائية في قوله بالإسلاميين إلى مدابرة للتاريخ، لأنهم ظنوا أن إستراتيجيتهم مما يمكن إقحامه في مجرى الممارسة العملية متى شاءوا. فالتغيير يقع -بحسب ظنهم- متى قالوا كن فيكون. وما انقلاب 1989 الذي ارتكبوه في رابعة النهار إلا شاهداً عدلاً على عشوائية الحركة وثمارها المرة.
واتخذ التلاوم صوراً مسرحية أحياناً. فما أن صوت الجنوبيون للانفصال حتى أعلن الحزب الاتحادي الديمقراطي براءته من وزره بتجليل دار الزعيم المرحوم إسماعيل الأزهري -أول رئيس لوزراء السودان المستقل (1954-1956) ورئيس الحزب- بالسواد. ويعرف كل من له أدنى إلمام بمنشأ مسألة الجنوب في السودان المستقل أن الأزهري هو واضع حجر أساسها. بل هو من اتفق للتحقيق الحكومي حول ملابسات أول “تمرد” للقوميين الجنوبيين في أغسطس/آب 1955 تحميله أكثر تبعة ذلك التمرد الذي أزهق أرواح مئات المدنيين الشماليين. ومن بين عثرات كثيرة لحكومته وحزبه على أعتاب الاستقلال، أخذ التقرير على الأزهري إسرافه في الوعود للجنوبيين خلال انتخابات 1954 بقسمة عادلة للسلطة الموروثة عن الإنجليز. فهو لم يعدهم بأولوية شغل الوظائف التي تشغر بخروج الإنجليز من الجنوب فحسب، بل مناهم بنصيب طيب من الوظائف القيادية في الشمال أيضاً. ووصف التقرير هذه الصنعة الانتخابية بأنها “متهورة وغير مسؤولة”، لأن الجنوبيين لم يحصلوا بالسودنة عام 1954 على غير ست وظائف في درك الخدمة المدنية، كان أعلاها نائب مفتش مركز. وأكدت هذه القسمة الضيزى للجنوبيين ما خالطهم دائماً من أن الشماليين -متى استقل السودان عن الإنجليز- سيعودون بهم إلى عهد الرق. وكان ضيمهم من السودنة -التي سموها “شمألة”- بعض حطب تمرد 1955. وعليه فقد أخطأ الاتحاديون حين تبرؤوا من الانفصال بحركتهم المسرحية عند دار الأزهري.
الصفوة السياسية في الحكم والمعارضة سواء في التوزير لانفصال الجنوب. هذه الصفوة من ذوي الأصول العربية والإسلامية (سوى الحزب الشيوعي في باكر أيامه) لم تتعاط مع الجنوب -في خصوصية مسألته- بأريحية ثقافية تنفذ إلى أغواره كآخر. فلما لم تر في الجنوب سوى عظمة تتقاذفها في نزاعها حول الحكم لم تحفظ له -كآخر- المسافة الواجبة.
”
ا
فهي إما دمجته في مشروعها السلطاني حاكمة، أو دمجته في أجندة مظالمها معارضة. فلم تنم ذوقاً للجنوب أو شغفاً به يتجاوز “التسيس” المرتجل لمسألته. وكان من شأن هذا الشغف والذوق أن يزكيا لهم تجديد ثقافتهم العربية الإسلامية لتتعافى من ضروب حزازاتها التاريخية حيال الأفريقي الأسود الذي هم بعضه. لنضرب مثلاً على تحول الجنوب لعظمة نزاع في مسرح السياسة الشمالية السودانية الشقاقي باتفاقية السلام الموقعة بين الحركة القومية الجنوبية المسلحة والرئيس نميري في أديس أبابا في 1972. وهي اتفاقية من الواضح أن نميري عقدها مع الجنوبيين لكسر طوق عزلة نظامه بعد أن خسر حليفه الشيوعي بانقلاب يوليو/تموز 1971. وكان الرجل اعتزل الأحزاب الموصوفة بـ”الإسلامية” أو “الوطنية” (الاتحادي الديمقراطي، الأمة، الإخوان المسلمون) منذ أن جاء إلى الحكم بانقلابه التقدمي اليساري. ونعم نميري بالفعل بهدوء سياسي طويل بعد توقيع تلك الاتفاقية. وحتى حين أزعجته جبهة الأحزاب الوطنية بغزوتها المعروفة من ليبيا في 1976 وجد حلفاءه الجنوبيين عند حسن ظنه. ولم تسعد تلك الاتفاقية خصوم نميري في الشمال. فكادوا لها كيدا بلا اعتبار لحقنها للدماء وعبير السلام الذي أنعش الجنوب. وكرهوها لأنها كسب ظالم، وراحوا يذيعون عنها نقداً مصطنعاً. فقال عنها الشيوعيون إنها “طبخة” أميركية تناصر عليها الإمبراطور هيلاسلاسي ومجلس الكنائس العالمي والمخابرات الأميركية ووكيلها الدكتور منصور خالد. وزادوا بأنها حوت بنوداً سرية لم يكشف أحد النقاب عنها بعد نحو أربعين عاماً من عقدها. أما أحزاب الجبهة الوطنية فقد كتبت للعقيد القذافي -أمين القومية العربية، الذي كانت ضيفاً عليه- تنبهه إلى الطبيعة التآمرية للاتفاقية وكيدها للعروبة والإسلام.
وهكذا اعتزلت المعارضة الشمالية جمعاء الاتفاقية. ولم تفطن لعقد السلام الذي أظلت به الجنوب (1972-1982). فانقطعت عن الحيوية السياسية والثقافية والاجتماعية التي عَبِق بها ذلك العقد في الجنوب. واستمسكت بتحليلاتها الكأداء، حتى تصالح بعضها مع نميري في 1977 صلحاً أراد به تأمين حكمه في وجه الحليف الجنوبي. ففي آخر عقد السبعينيات لم يعد نميري يقوى وحده على مجالدة مطالب الجنوب من مثل وجوب تنفيذ استفتاء أبيي الوارد في اتفاقية أديس أبابا، واحتجاجاته على شق قناة جونقلي، وبدء الخلاف حول النفط الجنوبي الحديث الاكتشاف . وفي سياق هذا التحالف مع الإسلاميين، تخلص نميري من اتفاقية أديس أبابا -التي لا بواكي عليها- بجرة قلم في يونيو/حزيران 1983. ثم عادت صفوة المعارضة بآخرة تلومه على تفريطه في الاتفاقية. ولم يشكها ضمير سياسي يبكتها على اعتزالها الشرس لتلك الاتفاقية اعتزالاً هون لنميري النكث بعهدها. ومن بين من لعب لعبة عظمة الجنوب في أحرج الأوقات، الاتحادي الديمقراطي الحالي بقيادة السيد محمد عثمان الميرغني. فيكثر الميرغني الآن من تأكيد براءته من وزر الجنوب بالتلويح باتفاقية سلام الميرغني/جون قرنق في نوفمبر/تشرين الثاني 1988. والاتحاديون والمعارضون لنظام الإنقاذ يعتقدون أنه لولا تردد رئيس الوزراء آنذاك السيد الصادق المهدي في إنفاذها لكنا قطعنا طريق انقلاب الإنقاذ في يونيو/حزيران 1989 ودابره.
ويكرر الميرغني حالياً أنه تواثق مع قرنق على وحدة السودان، وما عدا ذلك -مثل الانفصال- باطل. ولكن متى نظرنا في سياق عصبيات الائتلاف الحاكم في آخر الثمانينيات ونفسياته وضح لنا أن اتفاق الميرغني/قرنق كان عرضاً آخر لتعاطي صفوة الشمال مع الحالة الجنوبية كعظمة نزاع في صراعاتها للحكم. وقد اتفق على هذا التحليل لاتفاقية الميرغني/قرنق مؤرخان ضليعان للجنوب. فمن رأي دوغلاس جونسون (حروب السودان الأهلية، 2003) وروبرت كولنز في آخر كتبه (2008) أن الميرغني سقم من سياسات حليفه الصادق المهدي الذي صار هواه مع الشريك الثالث في التحالف الحكومي وهو الجبهة الإسلامية القومية بقيادة الدكتور حسن الترابي.
وطرأ للميرغني -وهو يتطلع للانتخابات القادمة- أن يقترب من الحركة الشعبية التي كانت قاطعت انتخابات 1986 وواصلت الحرب. فوقَّع معها الاتفاق المار ذكره. ولم يزد الاتفاق عن كونه طبعة ثانية من اتفاق كوكادام (بلدة بالجنوب) وقعته الأحزاب الجنوبية والشمالية -عدا حزبيْ الميرغني والترابي- مع الحركة الشعبية في مارس/آذار 1986. وقضى ذلك الاتفاق بعقد مؤتمر دستوري لبناء سودان مختلف أو جديد، على أن تنحل الحكومة القائمة وتٌلغي قوانين سبتمبر/أيلول الإسلامية التي فرضها نميري في 1983. وما انعقد الحكم للصادق بعد انتخابات 1986 حتى تنصل من التزامه باتفاق كوكادام لأن شركاءه في الحكم كارهون له، في حين مال الميرغني إليه. وحملت النسخة الجديدة لكوكادام في اتفاق الميرغني/قرنق تنازل الحركة الشعبية عن حل الحكومة، واكتفت بتعطيل قوانين نميري الإسلامية حتى انعقاد المؤتمر الدستوري المأمول. وأحدث الاتفاق استقطاباً سياسياً حاداً لا يتسع لوقائعه المقال. ويكفي أن انقلاب الإنقاذ كان ثمرة من ثمار حدة تلك الاستقطابات. وفشت عادة عقد اتفاق مع قرنق من قبل سياسيّ شمالي حردان أو حاقن. فما أن خرج الترابي على نظامه حتى وقع اتفاق فبراير 2001 مع الحركة الشعبية. وقس على ذلك.
التلاوم خطة عجز أو مظهر من “رقود الهمم”، في عبارة للشاعر صلاح أحمد إبراهيم. ومن المؤسف أنه لم يك بوسع فكرنا السياسي غير العودة من الانفصال بالتلاوم. فهو عرض من أعراض إرهاق الصفوة شخَّصه الناشط في الشأن الدارفوري إلكس دي وال، فقال إنها شاخ فكر شيبتها وشبابها حتى إن طاقة الصادق المهدي الأسطورية تتبخر. ومن بقي على شيء من الحيوية -مثل خليل إبراهيم وعبد الواحد محمد نور، من قادة حركات دارفور- سدروا في طرق الثورية المغيظة، أو الدمار الثوري الذي خلا من البدائل.
وعليه فقد خلت الساحة من أي فكرة جديدة ملهمة بعد أن جرب السودان الأفكار الكبرى كلها (يمين ويسار وهامش)، فتهاوت وسدت خرائبها الطريق نحو أفكار ملهمة جديدة. ولم يتبق للصفوة سوى الأفكار الصغرى يشغبون تلاوماً بها. “كل في صغائره زعيم” كمال قال الشاعر الفحل محمد المهدي المجذوب.