بعد انقسام الحركة الاسلامية عام ١٩٩٩، وخروج الراحل الترابي من السلطة، فقد نظام الانقاذ مرجعيته الدينية واصبح محتاجا لسد ذلكوالفراغ الذى احدثه خروج الترابي.
كان البشير يعلم تماما بالفراغ في المرجعية، و
لسد تلك الفجوة في المرجعية الفقهية، اهتدى البشير الى تبنى عدة فصائل من السلفيين على رأسهم جماعة عبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم وغيرهم. تنتمى هذه المجموعات الى السلفية الاصولية المتطرفة، تستمد افكارها من انصار السنة لكنها مضت بتطرفها اكثر منها لان هذه الجماعات تبيح العنف والترهيب. هذا التفاوت في المنهج قاد الى انشقاقات كثيرة في جماعة انصار السنة نفسها فاصبحت طرائق قددا، تتنافس في التطرف والظلامية وكثر شيوخها وكثرت فتاوهيم، فكل (شيخ) يفتى بمقدار ما بلغه من التطرف.
اغدق البشير على هذه الجماعات وفتح لها مكتبه ومكاتب المسؤولين ومكنهم من المساجد والمنابر وادخلهم كمحاضرين في الجامعات بما فيها جامعة الخرطوم، فانحطوا بها الى قاع سحيق وزال بريقها الاكاديمي السابق وتحولت الى اثر بعد عين. دعمهم البشير ماليا وما ابقي واصبح لكل منهم مسجدا يلعلع من منبره بأفكار ظلامية عفي عليها الزمن.
منهج هولاء الثابت هو نشر الكراهية الدينية والغلو والتطرف الديني في المجتمع.
في اقل من عقد من الزمان ومع الدعم الحكومى المفتوح، اشتد ساعد هذه المجموعات وقوي عودها واصبحت حديث الناس، تنشر التطرف والغلو الديني تحت حماية اجهزة الدولة.
في حقيقة الامر، زرع البشير قوتين تدميريتين في المجتمع. اولاهما مليشيا الدعم السريع حيث تجنى الان بلادنا حصاد تلك الزراعة المدمرة وما ارتكبته من جرائم معروف للجميع. اما المجموعة التدميرية الثانية فهي جماعات التكفيريين التى ظنت ان دورها قد جاء وان عودها قد قوى واصبحت تتربص لتنقض على الدولة في اللحظة المناسبة بعد ان زرعت عناصرها في مواقع كثيرة في الدولة – منها وزراء- واسست للكثير من التفاهمات مع قوى اخرى تشاركها مفاهيمها الظلامية ومطامعها السلطوية، وقد نجحت في الانحاء لعواصف كثيرة كادت ان تقتلعها، لكنها استخدمت فقه التقية لتحافظ على مكاسبها ونجحت في ذلك كثيرا حيث ما يزال الكثيرون من انصارها يعتلون المنابر ويخطبون في الناس.
هذا امر ينبيء بغفلة كبيرة وسط اجهزة الدولة تماما مثل الغفلة التى صاحبت تكوين المليشيا.
عندما تفجر الخلاف واشتد بين البشير والترابي وتم اعتقال الترابي، صمتت هذه الجماعات على ما اصابه، حيث رأت هذه الجماعات ان التخلص من الترابي وجماعته يفتح لها باب المرجعية الدينية على مصراعيه ويسهل (بتشديد الهاء)من عملية تمكينها في الدولة والمجتمع، ولذلك غضت الطرف على اعتقاله واعتقال رفاقه وما لحقهم واصابهم من النظام. كان صمتها منسجما مع فكرتها التى لا تضع لحقوق المواطنة و حرية الرأي اى اعتبار كما انه عزز من فرصتها في التمكن من الدولة والانتشار وسط الشباب.
وفد الي بلادنا هذا الفكر الظلامى من السعودية. انتشر فكرهم الظلامى ونمت تنظيماتهم تحت كنف الدولة ورعايتها والاغداق عليهما، والآن شاهد الناس كيف التحقت بعض قياداتهم بالمليشيا تمارس الصمت على جرائم المليشيا وسفكها للدماء. فكر من التحقوا بالمليشيا وفكر عبد الحي متطابق ومتماهي تماما ولا يوجد اى اختلاف، ولا حتى اختلاف مقدارى.
لم يكن لشخص مثل عبد الحي يوسف ان يكون شيئا مذكورا لولا اغداق البشير عليه وتبنيه ورعايته. فالرجل يحمل بين جنبيه فكرا ممعنا في الظلامية والتطرف، وقد تواتر انه افتي للبشير قبل سقوطه بحقه في قتل ثلث السكان. ومن ما استطعت الاطلاع عليه من افكار هذه الجماعات ارجح صحة تلك الفتوى، لان الموقف الاساسي الذى تنطلق منه هذه الجماعات هو تكفير المجتمع، ولذلك لم استغرب تكفيره للرئيس برهان، فقد كان الرجل يعبر عن ارسخ المبادىء التى تقوم عليها فكرتهم: تكفير المجتمع.
في نظر هذه الجماعات وفكرتها، فالجميع خارجين على الملة، وقد رأينا كيف اخرج عبد الحي يوسف الرئيس برهان من الملة دون ان يرتد له طرف بل لم يأبه لما قال في حق شخص مسلم يشهد ان لا اله الا الله محمد رسول الله. وان كان الرجل يجد في نفسه الجرءة لتكفير رئيس البلاد، فكيف تكون نظرته للعاديين من الناس الذين يستقبلونه ويتدافعون لاستقباله وتحيته…!
عند هذه الجماعات لن تكفيك الشهادة ولا الصلاة ولا الصوم ولا ذهابك للحج عشرة مرات من التكفير، فطالما انت لست منهم، فأنت اقرب للكفر من الايمان، لانهم يعتقدون بفساد عقيدة الجميع خاصة الطرق الصوفية. وفى كل الاحوال هى مسألة وقت حتى يلحقوك بجماعة الكفار. هولاء هم خوارج العصر، وان كان الخوارج الأوئل قد كفروا الامام على كرم الله وجهه، فمن الطبيعي ان يكفر خوارج عصرنا المجتمع بأكمله ولا يرون في ذلك اى غضاضه!
وكما نعلم فإن اسلام السودانيين اسلام صوفي لان الطرق الصوفية هى من ادخلت الاسلام ونشرته في السودان ولم يكن لهولاء فضل في دخول اسلافنا الاسلام، لكن هذه الجماعات تعتقد ان الصوفية اهل بدع وضالين ومنحرفين وان عقيدتهم فاسدة، وهذا مربط فرس الصدام القادم. ولان غالب السودانيين يتبع الطرق الصوفية، لذلك ترى هذه الجماعات ان عقيدتهم منحرفة مثلهم مثل شيوخ الطرق التى يتبعونها. ذلك هو مكمن الخطورة ان سمح لهذه الجماعات التكفيرية ان تتمدد وتنشر فكرها الظلامي بين الناس.
تحت كنف البشير نمت هذه الجماعات وسط اطياف من الشباب الذين لوثت عقولهم بالفكر المتطرف، حيث نراهم اليوم يتدافعون للدفاع عن رجل طعن في عقيدة رئيس البلاد و طعن في تضحيات الجيش ، وارسل الرسائل لاتباعه “انكم انتم وحدكم من تقاتلون اما البقية من جيش ومستنفرين فهم اصلا على باطل ولم يقدموا شيئا”.! وكما تابع الناس لم يحتج اي عضو منهم على طعن عبد الحي فى عقيدة الرئيس، بل ذهبوا للقولبأن دعمه للجيش واضح لان ابنائه متطعون يقاتلون مع الجيش ولى راي آخر في امر تطوعهم هذا، اما موضوع تكفير الرئيس رغم خطورته الكبيرة فتجاوزوه دون رد لانهم يعتقدون تماما بصحة ما قاله شيخهم عبد الحي اتساقا مع مبدأهم الاساسي بتكفير المجتمع! ومع مرور قرابة الاسبوع على انتشار خبر اتهامه للرئيس في عقيدته، لم يخرج عبد الحى ليقول انه اخطأ في ذلك او انها ذلة لسان، بل ما زال متمسكا بما قال بالطعن في عقيدة الرئيس.
اخشي ما اخشي ان تخرج بلادنا من قتال مليشيا الدعم السريع لتدخل في قتال هولاء التكفيرين. الفرق بينهم وبين المليشيا مفاهيمي تماما. فالمليشيا كما اثبتت جرائمهم تقتل الابرياء من اجل النهب والسلب، اما هولاء سيقتلوننا مدفعوين بمفهوم انهم بقتلنا يقومون بتنفيذ مشيئة الله لاننا في فكرتهم المنحرفة (ما عندنا دين) اى كفار تصح استباحتنا، بل انهم يكسبون حسنات بقتلنا كما فعلت جماعات داعش في العراق وسوريا. وهكذا يعطون الجريمة بعدا دينيا ويعتقدون انهم يتقربون بقتلنا الى الله.
ربما يعتقد البعض اننى اشتط في هذا الاتجاه، وارميهم بما ليس فيهم. لكن على القارىء ان يتمعن فيما قاله شيخهم الذى اخرج الرئيس من الملة، و كما نعلم فالكافر ليس من حقه تولى قيادة المسلمين ذلك ما يستنتج من ما قاله عبد الحي. ترى كيف سيفهم الشباب من انصاره ما قاله الرجل عن الرئيس وما ذا يتوجب عليهم القيام به، واترك الاجابة لفطنة القارىء.
ان النار من مستصغر الشرر، وهم الان يكشرون عن انياب نامية يستميتون في الدفاع عن شيخهم بالحق وبالباطل. لكل ذلك ومنذ الآن يتوجب على اجهزة الدولة تجنيب البلاد حرب ضروس وفتنة دينية لن تبق ولن تذر اراها قادمة ان لم نتخذ من التحوطات ما يكفي.
لفت نظرى ايضا عدم احتجاج وادانة القوى السياسية والمدافعين عن حرية الاعتقاد على ما قاله عبد الحي في حق (المواطن عبد الفتاح البرهان).. فالبرهان قبل ان يكون قائدا عاما للجيش او رئيسا لمجلس السيادة مواطن سودانى له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات. فيما نذكر ونعلم ما اجتمعت القوى السياسية الا ودفقت احبارا كثيرة في وثائقها التى لا تحصي عن حرية الاعتقاد، ولكن عندما ينتهك احد الظلاميين هذا المبدأ علنا تصمت ولا تحتج !! وان كان هذا الظلامى يكفر الرئيس فتكفيركم عنده اسهل من شرب الماء(الدور بجيكم قريب)! كان على هذه القوى ان تصدر بيانات الرفض والادانة والمطالبة بتقديم عبد الحي للمحكمة خاصة وانه قد انتهك حق اساسي لمواطن اخر واتهمه في عقيدته. وكما نعلم فالطعن في عقيدة مواطن اخر مسلما او غير مسلم جريمة وليس رأى!
في كل مرة توضع فيها القوى السياسية في امتحان حقيقي يختبر التزامها بالمبادىء التى تعلنها تفشل، ولا ادرى لماذا يسافرون ويجتمعون وينفضون ويصدرون الكثير من الوثائق التى لا يلتزمون بها..!
اعتقد ان القوى السياسية محتاجة ان تنظر داخلها وتصلح حالها قبل ان تفكر في الحكم. البعض يعتقد ان السياسة هى السفر من بلد لآخر واصدار الوثائق والتحدث في القنوات دون التزام بأى مبادىء ودون الدفاع عنها حتى الموت. مما علمنا من تاريخ الشعوب التى سبقتنا فإن تثبيت الحكم الديمقراطيى يحتاج لقادة ورجال مستعدين لتقديم ارواحهم مهرا له. فالحرية مهرها الدماء وليس طق الحنك الفارغ في الورش المغلقة في فنادق نائية تحيط بها الجبال.
لم تبلغ المجتمعات الديمقراطية ما بلغت، لان بعض افرادها مارسوا (طق الحنك) او امتهنوا السفر من بلد لآخر، بل قدم مئات الالاف ارواحهم مهرا لحقهم في الحرية، مئات الالاف احرقوا احياء وسحل مثلهم بالخيل في الطرقات وقطع مثلهم الى ارباع او ما كان يعرف ب(التربيع quartering اى تقطيع الشخص حيا الى اربعة اجزاء) واغرق عمدا مثلهم، ذلك كان هو الثمن الباهظ الذى دفعته الشعوب من اجل حريتها، اما غالبية احزابنا فتعتقد ان السفر بين عواصم البلدان كاف لتحقيق الديمقراطية…عجبي..!
ان الديمقراطية تتطلب اول ما تتطلب وجود قوى سياسية متماسكة مؤمنه بها، على الا يسمح بوجود قوى ظلامية تكفيرية لا تؤمن بالديمقراطية والتعددية ابتداء وتعتبرها رجس من عمل الشيطان. و لذلك فالحديث عن الديمقراطية في وجود هذه القوى الظلامية يعتبر تزجية للوقت فقط لا اكثر..! هذه قوى لا تؤمن بالديمقراطية ولا الحرية ابتداء، ولذلك لا مكان لها في المجتمع الديمقراطي الذى نسعي لاقامته. ذلك هو التحدى الذي يواجه القوى السياسية، ولا ارى اى استعداد عندها لخوضه.
هل سمعتوا يوما هذه القوى تتحدث عن الديمقراطية والتعددية او التنوع الديني والثقافي..!
اما ان تنهض القوى السياسية في وجه هذه القوى الظلامية وتحسم امرها او عليها ان تعلم انها ستكون قريبا اول ضحاياها سحلا وقتلا بعد تكفيرها، ولن تجد وقتها نصيرا او من يزرف عليها الدموع!
ان اسلام غالب السودانيين اسلام صوفي نقي ومعتدل ومتسامح، ذلك الاسلام الوسطى هو ما يمارسه غالب السودانيين ولذلك يجب على الدولة دعمه وتمكينه حتى نجنب بلادنا شرور التطرف والغلواء.
منذ فترة تحارب الدول والشعوب المسلمة (السعودية مثالا) الغلو والتطرف الديني بعدما شاهدت جرائم داعش في العراق وسوريا، لكننا في السودان نتراخي بصورة مخيفة ونترك لهذه القوى الظلامية الحبل على الغارب، واخشي ما اخشي ان يصبح مجتمعنا ك (ديك المسلمية)!
والنار من مستصغر الشرر..!
فانتبهوا..!
هذه الارض لنا